ترك رئيس الحكومة المكلف، سعد الحريري، مشاورات تشكيل الحكومة مرّتين. المرة الأولى ألقاها على عاتق وزير الخارجية جبران باسيل. فصال وجال، مبتدعاً صيغاً لإخراج التشكيلة من مأزقها، من دون خسارة الأحد عشر وزيراً من حصته، فلم يصل إلى نتيجة. والمرة الثانية، حين أوكل المهمّة إلى رئيس الجمهورية ميشال عون، فيما هو غادر في زيارة إلى الخارج.
التغيّب الطوعي
بعد لقائه عون، صرّح الحريري من القصر الجمهوري، بأن رئيس الجمهورية يقوم بجولة إتصالات، على أمل أن يصل إلى حل. ربما، بهذا "التفويض" لم ينتبه الحريري إلى التفاصيل، أو ربما ما عادت تعنيه. فغايته النتيجة النهائية. علماً أن هذا الطريق للوصول إلى نتيجة مأمولة (وغير مضمونة)، تحفل بتجاوزات لما يسمى صلاحيات رئيس الحكومة، وأصول عمل الرئيس المكلّف بتأليف مجلس وزرائه.
أن يجتمع عون برئيس مجلس النواب، ووفد حزب الله، والنواب الستة، للبحث عن مخرج للأزمة الحكومية.. يعني أنه هو من يشكّل الحكومة، وسط تغيّب طوعي للرئيس المكلف. وبمجرد قبول الحريري بهذه الصيغة، فهو يناقض نفسه حين يدّعي مواجهة أي مساس بصلاحياته. هذا يسقط أيضاً كل الشعارات، التي رفعها في مرحلة سابقة، عند تأكيده بأنه لن يقبل مساساً بالطائف وبالصلاحيات المناطة برئاسة الحكومة. لقد جرى مسّها في الأساس، عند أكثر من محطّة ومفصل، خلال فترة التكليف، وفي مرحلة الحكومة السابقة.
يوم رفض عون صيغة حكومية مقدّمة من الحريري، معلناً أن لديه ملاحظات عليها، لا بد لرئيس الحكومة المكلف الإلتزام بها. ثارة ثائرة المقربين من الرئيس المكلف، الذي لم يعر الموضوع كثير اهتمام. صحيح أنه ردّ على عون في حينها، لكنه عاد وتراجع معلناً الإلتزام بالتسوية والتفاهم مع الرئيس. وكأنه يقول: "هالأمور مش بيناتنا". اليوم يبرز هذا التماهي إلى حدّ بعيد، إذ أن الحريري غادر البلاد، معلناً أن رئيس الجمهورية هو من يقود مشاورات.
جيب الرئيس
الأكيد أن عون الراغب في "استعادة" صلاحيات، يعتبرها مسحوبة من موقع الرئاسة، لن يفوّت فرصة من هذا النوع لإنجاحها، حتى ولو كانت ربما على حساب الأحد عشر وزيراً. ولأن لا شيء مجانياً في السياسة، فلا بأس بالتنازل عن وزير من الأحد عشر، مقابل تعزيز مكسب استعادة صلاحيات "الجمهورية الأولى"، وتقديم مشهدية سياسية كبيرة، بالغة الأثر مستقبلياً، قوامها أن الترسيمة الحكومية، وحلّ معضلة التشكيل قد خرجا من بعبدا، من جيب رئيس الجمهورية "القوي"، بوصفه هو الكلمة الأخيرة في عملية التشكيل، في سابقة لم يعهدها لبنان منذ إتفاق الطائف.
"يبيع" عون وزيراً لسنّة الثامن من آذار، مقابل شرائه لصورة يطمح منذ زمن إلى تعزيزها، وهي تقويض صلاحية رئيس الحكومة في استفراده لقيادة مشاورات التأليف، وفي حصر دور الرئيس بالتوقيع إيجاباً أم رفضاً.
بناء على هذا، قد يُقدم رئيس الجمهورية على التنازل عن وزير من حصته، لصالح شخصية يسمّيها النواب الستة السنّة، لتمثلهم في الحكومة، بشكل يرضي حزب الله، ولا يزعج الحريري، الذي يشترط عدم تسمية واحد منهم. على هذا النحو يظهر فيه عون محققاً لانتصار سياسي ومعنوي لا لبس فيه: شكّل الحكومة بنفسه، ووفق شروطه، وأخذ ما أمكن من طريق رئيس الحكومة المكلف، وأنقذ عهده.
رئيس كرسي
محاولة عون لتطويق صلاحيات الحريري قديمة جديدة. لن تقف عند حدود. يحدث ذلك مقابل استسهال لدى الرئيس المكلف بكل هذه التفاصيل، بحجة التعالي عليها. وحسب ما يقول أحد الوزراء في حكومة تصريف الأعمال: بعيد تشكيل حكومة الحريري الأولى في عهد عون، جرت الدعوة لأول جلسة حكومية من القصر الجمهوري، وليس من الأمانة العامة لمجلس الوزراء، في سابقة خطيرة، وفق الأعراف المتبعة. حينها جرى تعطيل هذه الدعوة، وتوقيفها، ومن ثم توجيهها من قبل رئيس مجلس الوزراء.
تشير هذه الواقعة إلى ما يسعى إليه عون منذ البداية. ولا يغيب عن البال، ذات جلسة حكومية في القصر الجمهوري، والتي اضطر عون إلى مغادرتها، موكلاً إدارتها إلى رئيس الحكومة المكلّف.
أثار هذا التصرف يومها الكثير من الملاحظات على ما يرمي إليه عون، وعلى تعاطي الحريري المتساهل مع الفكرة. إذ أن العرف واضح في ترؤس الجلسات ما بين القصر الجمهوري والسراي الحكومي، بعد إحالة مبنى مجلس الوزراء إلى التقاعد منذ سنوات. الأصول المتبعة تقول أن الجلسة التي تعقد في القصر الجمهوري تكون برئاسة رئيس الجمهورية، أما التي يغيب عنها الرئيس فتعقد في السراي الحكومي برئاسة رئيس الحكومة. ولم يحدث من قبل أن يترأس رئيس الحكومة جلسة على طاولة القصر الجمهوري. حينها قرأ الحريري التصرف خطأ وربما بطيبة خاطر، أما من الناحية العملية والجوهرية فهذا يأتي على حساب صلاحياته وموقعه، الذي تحول بفعل هذه الواقعة إلى رئيس كرسي، يتحرّك رهن إشارة رئيس الجمهورية.