بدا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون متجاوباً مع شكوى السترات الصفر في فرنسا ازاء اوضاعهم المعيشية الصعبة. واعتذر في خطاب مقتضب لمدة ١٣ دقيقة (وخطاباته تقليديا طويلة جداً) للشعب الفرنسي اذا كان قد ظهر متكبرا أو بعيدا عن انشغالات شعبه. فقدم بلهجة رصينة ومهيبة اربعة اجراءات لارضاء المحتجين، قائلا انه يتفهم صعوبة حياة البعض وقساوة اوضاعهم المعيشية من دون الاستسلام لمن قاموا باعمال العنف، فقد ادانهم وقال ان العنف مرفوض مؤكدا نفوذ رئيس الدولةمعتذرا ان كان جرح البعض . فقد قرر ازالة الضريبة على المتعاقدين ذوي الدخل المنخفض، وقال انه يزيد مستوى الراتب الادنى بمئة يورو من دون ان يدفعها رب العمل، وازال الضريبة عن ساعات العمل الاضافية، الاجراء الذي كان ادخله الرئيس الفرنسي اليميني السابق نيكولا ساركوزي وازاله الاشتراكي فرانسوا هولاند فور وصوله الى الرئاسة . وقال انه لن يعيد الضريبة على الثروة لانها لا تجدي بشيء الى المحتاجين، بل العكس فإن عودتها تؤدي الى فرار رأس المال والمستثمرين وتزيد البطالة.
ووعد بحوار يقوده هو مع مختلف القوى على الارض ومع ممثليهم رؤساء البلديات والنقابات، فخطابه عبر عن ادراكه خطورة الوضع المعيشي لجزء كبير من الشعب الفرنسي واصفا هذه الفترة بانها «مرحلة تاريخية لبلدنا» ومغيرا لهجته التقليدية البعيدة عن الشعب البسيط .فابدى شجاعة في هذا الاعتذار والتراجع.
لكن ردات فعل متظاهري السترات الصفر كانت متفاوتة جدا، اذ ان البعض اعتبر انه تجاوب مع متطلباتهم وانهم سيعلقون تعبئتهم. لكن البعض الآخر، وهم اكثرية، اعتبروا أن هذا غير كاف او انهم وصفوا خطابه بانه تمثيلية وانهم سيستمرون بحراكهم الى النهاية.
واقع الحال ان ماكرون اعطى ما يمكن اعطاءه في اوضاع اقتصادية صعبة، حتى انه نقض اقوال وزير المال ووزيرة العمل اللذين عشية خطابه اكدا ان لا مجال لا لزيادة الراتب الادنى ولا لازالة بعض الضرائب .لقد استخدم نفوذه لتبني الاجراءات لترضية المحتجين. لكنهم قد يستمرون يوم السبت المقبل بالتحرك لانهم يريدون اكثر من ذلك ليس فقط للاجور الادنى ولكن لجميع الرواتب للطبقة المتوسطة، ويريدون زيادة مستوى التقاعد تماشياً مع ارتفاع كلفة المعيشة.
وقرروا الاستمرار لانهم لا يثقون بوعود الطبقة الحاكمة وما تردده لهم منذ عشرات السنين. وقد انتخب ماكرون لانه وعد بانه سيصلح فرنسا مهما كان الامر ومهما كان الرفض بوجهه، لكن الشعب الفرنسي تعود منذ سنوات الاعتماد على الدولة لتحسين اوضاعه المعيشية. والآن الدولة اصبحت عاجزة عن تأمين اوضاع معيشية افضل. فماكرون ظن ان تخفيف عبء الضرائب عن ارباب العمل سيخلق فرص عمل وسيحسن قوة الشعب الشرائية وذلك يأخذ وقتاً، لكن محتجي السترات الصفر لن يصبروا، إذ طفح الكيل من عبء الضرائب فثاروا. والآن تلاميذ المدارس ثاروا محتجين على شهادة البكالوريا، وقطاعات اخرى من الشعب جاهزة للتحرك بتشجيع من اليسار المتطرف بقيادة زعيمه جان لوك ميلانشون الذي انتقد ماكرون وجعل من هذا الانتقاد عمله ليلاً ونهاراً. فقال ان الرئيس ماكرون بدأ بادانة من قام بالعنف من دون ان يقول اي كلمة عن ضحايا هذا العنف ولا عن اعضاء قوى الامن الذين جرحوا. واضاف ميلانشون عن ماكرون انه اخطأ التقدير عن الفترة التي تمر بها فرنسا فقد اعتبر انه عبر توزيع القليل من المال سيتوقف الاحتجاج . وقال ميلانشون ان كتلته البرلمانية ليست معنية بالاجراءات التي عرضها ماكرون لانها لا تمثل اي حل.
ولكن اليمين الديغولي اقر بصواب بعض الاجراءات التي عرضها ماكرون في خطابه . فكان من المفروض منطقيا ان تهدئ قرارات ماكرون الاحتجاجات ولكن الحراك الشعبي سيستمر. وربما يتوقف الحراك عندما يتعب قطاع العمل والتجار والسياحة من هرب السياح والمشترين على عتبة أعياد الميلاد ونشر جو الكآبة في المدن الفرنسية. فالمحتجون يريدون تحسين قوتهم الشرائية، لكن هذا غير ممكن بين ليلة وضحاها. وماكرون لا يملك عصا سحرية لذلك، فهو يحاول تحسين اوضاع فرنسا على المدى الطويل. ولكن ثورة السترات الصفر سبقته ولن تنتظر.
وبعض السياسيين من اقصى اليسار واليمين المتطرف يستغلون هذا الاستياء . ولكن ثورة السترات الصفر قد تفقد التأييد الشعبي اذا ادت الى المزيد من الخسارات لمختلف القطاعات الحيوية في البلد الذي يشهد باستمرار منذ اول الشهر كل يوم سبت اغلاقات المتاجر والاحياء والتكسير والتخريب والسرقات في باريس وبوردو وغيرها من المدن الفرنسية.
هذا محكوم بالفشل اذا استمر وسيزيد الحياة في فرنسا صعوبة للمحتجين وغيرهم.