يعتقد العارفون بمواقف «القوات» أنها تعيش اليوم ردّة فعلٍ على ما جرى معها أخيراً، عندما طُلِب إليها تسهيل تأليف الحكومة والموافقة على حصة «مرسومة» لها. فهي لم تشاكس ولم تلجأ إلى الرفض والتعطيل، لئلّا يقال إنها هي المسؤولة عن بقاء لبنان بلا حكومة في أصعب الظروف سياسياً واقتصادياً.
فقد أدّت «القوات» قسطها للعلى وسهَّلت التأليف - يقول هؤلاء - لكنّ كثيرين من الذين كانوا يطالبون «القوات» بالتسهيل، يخلقون اليوم التعقيدات ويتشبّثون بالشروط، وهم الأكثر تشنّجاً. فلماذا إذاً كانوا يستعجلون أخذ موافقة «القوات» على حصتها الحكومية التي تستحقّ أكبر منها؟
وهناك انطباع في بعض الأوساط الحزبية أنّ «القوات»، وبسبب جرأتها ووضوح مواقفها، «تطحش» عادةً، وتذهب بعيداً في الدفاع عن الحلفاء. ولكن، في كثير من الأحيان، تقوم القوى المتعارضة بعد ذلك بتركيب توافقاتها المصلحية، وتحصل على الحصص التي تريدها، وتترك «القوات» في المواجهة منفردة تسعى إلى تأمين ما أمكن من المصالح المحقّة. وهذا ما حدث أخيراً عندما طُلِب من «القوات» تسهيل تأليف الحكومة.
ويروي بعض المتابعين السياسيين نماذج من مجريات التجربة «القواتية». فـ»القوات»، مثلاً، دافعت بقوة عن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والرئيس سعد الحريري، وتضامنت معهما بصلابة لتأمين حصتيهما في الحكومة العتيدة.
ولكن، فجأة، رمى جنبلاط أوراقه في أحضان العهد، وتمسَّك الرئيس المكلّف بحصته الحكومية، وطلب من «القوات» أن توافق على حصة غير عادلة لها، من أجل تسهيل التأليف.
ولذلك، وفق المتابعين، تقف «القوات» اليوم مع حليفها الحريري بكل ثبات وقوة، كما اعتادت دائماً. لكنها ليست مضطرة إلى شنّ حملة سياسية، وأن «تطحش» أكثر من الجميع. وهي تفضّل أن تقدّم دعمها بلا ضجيج سياسي أو إعلامي، تجنّباً لمنح كثيرين ذرائع ينتظرونها لإطلاق النار على «القوات»، رغبةً في تحقيق مكاسب مختلفة، كما حصل مراراً.
ويُسمَع في الأوساط «القواتية» مَن يقول: «لسنا راضين عن هذه الوضعية. فالبعض ربما اعتاد أن يطلق المواقف التصعيدية إلى حدود عالية جداً، ثم يتراجع. وأما نحن فنبقى دائماً على مواقفنا، ولم نعتَد المناورة أو التراجع. ولذلك، نحن نفضّل اليوم التزام الموقف الثابت والهادئ».
ويقول المتابعون: «واضح أنّ «القوات» تتجنّب حتى الغوص في ملف الأزمة التي تثيرها إسرائيل، تحت عنوان وجود أنفاق هجومية عند الحدود في الجنوب. فالحزب يحرص على أن لا يُستغلّ موقفه وأن يُتَّخذ مادة للهجوم عليه تحت شعارات واهية، علماً أنّ مواقفه كما عبّر عنها الدكتور سمير جعجع واضحة من الزاوية الوطنية ولا لبس فيها بأيِّ شكل من الأشكال، إلّا للذين ينتظرون فرصةً لفتح النار على «القوات».
في أيّ حال، ووفق المتابعين، ثمّة مراهنة لدى «القوات» على أنّ التسوية ستأتي على رغم التصعيد الحاصل. وهناك اقتناع بأنّ «حزب الله» يفضِّل التسوية على رغم رفع سقف مطالبه. فالظرف الإقليمي والدولي، ولا سيما العقوبات الأميركية على إيران وعليه، يجعله أكثر حذراً ولا يسمح له بتكرار تجربة 7 أيار 2008.
فـ«الحزب»، في تقدير المتابعين، لا يتحمّل أن يُسلَّط الضوء عليه كأداة تعطيل وتفجيرٍ للوضع الداخلي، لأنه في ذلك سيثبت الاتهامات الخارجية بأنه عامل سلبي في استقرار لبنان. وهو وإن كان يمتلك السلاح ويتمتع بفائض القوة، فإنه يفضّل اللجوء إلى ممارسة الضغوط السياسية دون سواها، من خلال امتلاك مزيد من أوراق القوة في داخل المؤسسات.
ولذلك هو يريد أن يفرض نفوذه على الحكومة العتيدة، من خلال تركيبتها وبرنامج عملها. وسيتبيّن، يوماً بعد يوم، أنّ ما يريده «الحزب» ليس تمثيل السنّة بوزير من 8 آذار، بل التناغم مع حسابات إيران ونفوذها.
ولكن، هل تراهن «القوات» على فتح قنوات الاتصال والحوار مع «حزب الله»؟
القريبون من «القوات» يقولون إنّ هناك خلافاً بين الطرفين على عناوين استراتيجية يَصْعُب التفاهم عليها. وفي المقابل، تلتقي «القوات» مع «الحزب» في مسائل محاربة الفساد واعتماد مبدأ الشفافية والتصدّي للاستنساب الذي يضرب الدولة والخزينة.
ولكن، ألا تُعتبَر التجاوزات التي يُتّهم «حزب الله» بإرتكابها، في مجالات مختلفة، عاملاً مسهِّلاً لمناخات الفساد أو جزءاً مكمّلاً لها؟ ومن هنا، يُصبح ضرورياً الاتفاق على المفاهيم بين الحزبين قبل أيّ شيء آخر.
إذاً، في ظلّ هذه المعطيات، تتأنّى «القوات» وتحاذر أن تُترك وحدها، مرّة أخرى، في بلد الصفقات المفاجئة والانقلابات السريعة والأثمان المدفوعة مجاناً، في كثير من الأحيان.