لم تزل فلسفة النظام الاقتصادي اللبناني منذ ترسيخ قواعده من ميشال شيحا عقب الاستقلال تمجّد الليبرالية المفرطة، والتي تهدف إلى حماية أصحاب الريوع المالية وتحالف الرأسمالية والطبقة السياسية الفاسدة واستمرار لسياسة "شبكة المحاسيب" التي كانت سائدة قبل الاستقلال. فأصبحنا أمام حكم العائلات والطبقات المترسملة "أوليغارشيا". وما زال القطاع الخاص يسيطر على 70% من حجم الاقتصاد اللبناني. بل إن جميع الحكومات المتعاقبة عملت على ترسيخ نفوذ الرأسماليين الريعيين وتحقيق مصالحهم عبر السياسات النقدية والمالية التي اتبعتها. من هنا نجد هذه الهجمة الشرسة والمستميتة من هؤلاء على سلسلة الرتب والرواتب وتحميلها مسؤولية العجز المالي المتراكم والدين العام الذي تجاوز الخطوط الحمراء. لذلك نحن أمام إشكالية مهمة ألا وهي، هل فعلاً هذه السلسلة هي المسؤولة عن هذا الوضع المالي المتأزم في لبنان؟
تصحيح الأجور
أحدث عالم الاقتصاد البريطاني جان ماينرد كينز ثورة في الفكر الاقتصادي الحديث حين طالب برفع الأجور الاسمية لرفع مستوى الطلب الكلي الفاعل من طريق زيادة الإنفاق الحكومي وتمويل عناصره (معروفة باسم السياسة المالية التوسعية)، ولاسيما "التمويل بعجز الموازنة" لمعالجة الأزمة الاقتصادية العالمية عام 1929، وقد نجح بذلك حتى بداية السبعينيات حين اندلعت أزمة جديدة، اجتمع فيها التضخم والركود. لكن من شروط نجاح السياسة الآنفة الذكر أن لا تزيد السيولة النقدية بمعدل يفوق المقدرة الإنتاجية الحقيقية للبلد حتى لا يزيد الطلب الكلي عن العرض الكلي، مما يزيد من معدلات التضخم وما له من آثار سلبية على المجتمع والاقتصاد وسعر صرف العملة. وإن من أهداف الإنفاق العام عبر إقرار زيادة الرواتب للموظفين هو التأثير في توزيع الثروة بين الأفراد والتخفيف من التفاوت الاجتماعي وزيادة في حجم الطبقة الوسطى. وفي حالة مثل لبنان حيث يعاني الانكماش والركود الاقتصادي والموارد الاقتصادية ما زالت دون مستوى التوظف الكامل حيث تتعدى نسبة البطالة 36%، فإن زيادة الطلب الكلي تساهم في تقليص الفجوة الانكماشية وتحقيق التوازن الاقتصادي العام. من هنا أهمية ضخ السيولة النقدية في الدورة الاقتصادية، وإن تأثير ضخ كمية معينة من التدفقات النقدية يولد تأثيراً مضاعفاً على الدخل القومي والنمو الاقتصادي تحت ما يسمى تأثير المضاعف ) Multiplier effect). إذ يشكل الإنفاق الاستهلاكي في لبنان الجزء الأكبر من الطلب الكلي وتالياً من الناتج المحلي حيث بلغ في العام 2016 نحو 46000000 مليون ليرة لبنانية، ويشكل نسبة 62,74% من الناتج المحلي بحسب إدارة الإحصاء المركزي. والمتتبع لحركة الأسواق التجارية يجد غياب السيولة المتداولة بسبب الفوائد المرتفعة على الودائع التي امتصت هذه السيولة من الأسواق.
أهمية الطبقة الوسطى
الطبقة الوسطى هي صمام الأمان لأي مجتمع من المجتمعات مهما بلغ تطوره، وكلما زاد حجم هذه الطبقة أرسيت قواعد مهمة للأمن والأمان المجتمعي وفاعليات مهمة للنشاط الاقتصادي. ولا شك في أن الخطر الحقيقي على المجتمع واستقراره هو في ذوبان هذه الطبقة وانحسارها. وإن تلاشي الطبقة المتوسطة يعني فشل خطط التنمية، وتعطّلاً تاماً للمحرك الاقتصادي في المجتمع. ففي تقرير البنك الدولي عام 1976 وصلت الطبقة الوسطى في لبنان إلى اكثر من 72%، وهي الحقبة التي وصف لبنان بها بـ "سويسرا الشرق". وهذا يناقض تقرير التنمية البشرية للعام 2015 الصادر عن الأمم المتحدة والذي يؤكد أن 30% من اللبنانيين فقراء و8% معدمون. وقد تقلصت نسبة االطبقة الوسطى إلى حوالى 40% عام 1992، ثم إلى نحو 30% عام 1999، لتصل إلى نحو 20%. وفي تقرير للبنك الدولي يشير إلى تراجع 170 ألف لبناني إلى حالة الفقر أي مزيد من انخفاض في حجم الطبقة الوسطى. وتالياً فمن المؤكد أن نسبة الفقر قد تخطت 35%. من هذا المنطلق تأتي أهمية سلسلة الرتب والرواتب في تعزيز الطبقة الوسطى وإعادة التوازن العام في المجتمع اللبناني.
السياسة النقدية والفساد هما المشكلة
تتعدد الأهداف التي تسعى الحكومات إلى تحقيقها للحفاظ على مجتمعاتها، ومن أهمها زيادة الناتج المحلي الإجمالي ومكافحة التضخم، وتخفيض عجز الموازنة والدين العام وتحسين وضع ميزان المدفوعات والميزان التجاري، وإيجاد فرص عمل جديدة والقضاء على البطالة، والمحافظة على استقرار سعر صرف العملة المحلية، والتوزيع العادل للدخل والثروة بين أفراد المجتمع وشرائحه. ومن أكبر الأخطاء أن تعطي الحكومة الأولوية لهدف على حساب أهداف أخرى كما حاصل اليوم في لبنان إذ تعطي الدولة اللبنانية ومصرفها المركزي الأولوية القصوى لثبات قيمة الليرة اللبنانية. وإن كان هو هدفاً محقاً في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية إلا أن اقتصار السياسات المتبعة لتحقيق هذا الهدف منفرداً لهو من الأخطاء المقيتة. وتسعى الدولة عادة الى تحقيق هذه الأهداف عبر السياسات المالية والنقدية. ورغم أن السياسة النقدية تعدّ من السياسات الرئيسية في تحقيق هذه الأهداف، إلا أنها تطبق في لبنان للحفاظ على سعر صرف ثابت لليرة اللبنانية فقط دون الاهداف الأخرى. فالهندسات المالية التي يتبعها المصرف المركزي والفوائد المرتفعة الهادفة إلى استقطاب الودائع للحفاظ على الليرة لها انعكاسات سلبية على الوضع الاقتصادي والمالي تتمثل بانخفاض الاستثمارات وتالياً الناتج المحلي الإجمالي وأيضاً تساهم في زيادة الدين العام. وإن الحل يكمن في تفعيل السياسة المالية الفعّالة بأدواتها المختلفة وفي مقدمتها الضرائب التصاعدية والسعي إلى تكبير حجم الاقتصاد وتخفيض العجز المالي الكفيلان بتحقيق الاستقرار النقدي والاجتماعي. ويؤكد على ذلك ما نقلته وكالة "بلومبيرغ" عن صندوق النقد الدولي في شهر أيار في تشديده على أنه يجب القيام بتعديل مالي كبير لكي يحافظ لبنان على سعر الصرف مقابل الدولار.
وإن المسؤول الحقيقي والفعلي عن العجز المالي ليس إقرار سلسلة الرتب والرواتب وإنما منظومة الفساد والإهدار المستشرية في الإدارات العامة والمؤسسات الإنتاجية. آخرها وليس أخيرها التوظيفات السياسية التي تمت في العام 2018 والتي بلغ عددها 5000 وظيفة كما صرح وزير المال. وقد وصلت نسبة المتخلفين عن دفع الضريبة وفقاً لبعض الدراسات إلى 70% من إجمالي المكلفين. وإن التكليف الضريبي يطال 75% من ذوي الدخل المحدود مقابل 13% لأصحاب المداخيل الكبيرة والثروات. ووفقاً لدراسة أعدّها "بنك عودة" يقدّر التهرب الضريبي حالياً في لبنان بـ 4.2 مليارات دولار. واستناداً إلى تقديرات الأمين العام السابق لجمعيّة المصارف مكرم صادر، تبلغ قيمة التهرّب الضريبي لشركات القطاع الخاص في لبنان نحو 1.5 مليار دولار سنويّاً. وهو رقم يكفي وحده لسداد 29% من العجز في موازنة مثل موازنة العام 2017. وإن حجم التهرب الجمركي الضريبي يبلغ 1.95 مليار دولار سنوياً من البضائع غير المصرح بها، بالإضافة إلى 195 مليون دولار تدفع على شكل رُشى كبرى لتسهيل مرور البضائع من دون التصريح بها، وكذلك 195 مليون دولار ضريبة القيمة المضافة غير المدفوعة على السلع المهربة. ويبلغ الإهدار في مؤسسة الضمان الاجتماعي 133 مليون دولار. وتبلغ قيمة الإهدار في الجمارك ومرفأ بيروت 400 مليون دولار. وعجز الكهرباء وحده يقدّر بـ 2 ملياري دولار سنوياً قادر وحده على تمويل السلسلة. ووفق دراسة للبنك الدولي تبلغ كلفة الفساد في لبنان 10 مليارات دولار سنوياً وهي كفيلة بتمويل السلسلة لسنوات عدة.