يضمّ كتاب «طريق النور»، الصادر عن دار بيسان والذي ترجمه بإتقان المترجم باز الأشهب، عدّة حكايات، منها ما بَلورها بعد أن ابتكرها الراوي، ومنها حكايات شعبية روسية قديمة، ومنها ما هو مأخوذ من صميم التراث الروسي القديم.
القصص برمّتها تدعو إلى شقّ طريق النور بالتقوى، ولكنها تتضمّن المغزى في حبكة فولاذية يقبض عليها الراوي بسَردٍ مُحكم يتصاعد مع فرض روح الفلسفة بسلاسة طَيّعة لأفكاره العميقة، حيث تبدأ أول حكاية بحوار بين مُترفين أغنياء خَبروا الحياة بشهدها ومسرّاتها، وتناسوا ما عليهم من حقوق تجاه ربّهم، وكلما أرادوا أن يشجّعوا بعضهم البعض على السير في درب التقوى، يعترض آراءهم شخصٌ من بينهم مُستخدماً الحجج الكثيرة ليُثبط من عزائمهم ويقنعهم بأن ما عليهم من واجبات ومسؤوليات يجب أن تأخذ حيّز الأولية في حياتهم. وقد أراد الكاتب هنا أن يركز على ضعف الإنسان الذي يبعده دائماً عن التفكير في النهاية المحتّمة، ويُلهيه بتقلبات الحياة، فيعتصر فكره وإحساسه في تحصيل السعادة.
ثم يطرح قضية جارَين من قرية روسية خلّابة، كانا على وئامٍ تام ثم دبّ الخلاف بينهما بسبب خلاف بين زوجتيهما فيُمعنان بطشاً وتنكيلاً ببعضهما البعض، فيضرب الأول زوجة الثاني ويحرق الثاني بيت الأول، إلى أن يدرك أحدهما أنّ التسامح هو الحل الأنسب لإخماد نار الحقد رغم كل الأذى الذي ألحقه به جاره بعد أن أحرق له الدار وغلّته وحصاده.
ثم يعرج على حكاية قوم اجتمعوا ليثبتوا أيّهم دينهم الأمتَن والأحق في العبادة، وبعد لأيٍ ومناقشات حامية بين المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي، يبقى أحدهم صامتاً طوال الوقت، فيطلب منه الآخرون أن يطرح رأيه للنقاش فيسألهم هل الشمس تدور حول الأرض أو العكس صحيح؟ يتنازَع القوم في الإجابة وتتخبّط آراؤهم بالعناد والتشبّث بمعتقداتهم، إلى أن يجيبهم أنّ الأرض هي من تدور حول الشمس، لتنصف كلّ البلدان في الكرة الأرضية بحيث ينال كل بلد حظّه من نورها، وكذلك الله هو للجميع، يدور حولهم ليرعى شؤونهم ويبسّط أمورهم، وهو ليس لدين محدّد أو قومٍ معيّنين.
في حكاية أخرى، يتطرق إلى مقدرة الشيطان على الإستيلاء والاستحواذ بحواس الغني الذكي، وبعجزه عن إدراك ذلك مع أخيه الساذج العقل، لأنّ الفطرة المُتدثّرة بالبراءة والعفوية هي من صفات النور الذي يقهر الظلام.
وهكذا دواليك، تتوالى الحكايات مع تولستوي، منها ما هو ميثيولوجي بحت، ومنها ما ينتمي الى أدب الأساطير والخيال، ومنها ما يرتسم في حَدقتي العتمة إشراقة مباغتة.
من صفات الكتاب الفلسفة في التأمل والتدبّر في شؤون الفرد والتحليل المفهومي المنطقي، الذي يقود دائماً إلى الله. فبالنسبة لتولستوي، يمكن تسوية جميع المشاكل باللجوء إلى الإيمان، وعندما أتى فيثاغورس بكلمة فلسفة، وطرحها قيد المناقشة حتى تدرّجت على منابر العصور، إنما استخدمها للتبَحّر في أمورٍ فلسفية تخصّ مسائل جوهرية في جوانب الإنسانية، من ضمنها الحياة والموت والسعادة واليأس، ولكنه طرحها في قالبٍ علمي عملي، أمّا تولستوي فقد سَخّرها خريطة واضحة المعالم واثقة التضاريس لتقود كلّ ساعٍ للمعرفة إلى طريق النور.
ليو تولستوي من أهم الكتاب الروسيين الذين سبقوا عصرهم في روح الحداثة وحَدّوا من المنهجية الكلاسيكية الروتينية التي كانت تطغى على كتّاب زمنه، وقد ناقضَ بنظريته الكاتب دوستويفسكي الذي غاص في المذهب الوجودي وثار على الكثير من مبادئ الدين وتَشكّك في نواحٍ كثيرة منها.