لكنّ الازمة السياسية استمرت، لا بل تصاعدت، لتصبح خانقة. ما دفع الرئيس الفرنسي الى دعوة الفرنسيين للمشاركة في استفتاء شعبي حول الاصلاحات، في محاولة للخروج من المأزق الحاصل. لكنّ نتيجة الاستفتاء سجّلت خسارة لديغول الذي أعلن استقالته تنفيذاً لِما كان قد وعد به سابقاً.
صحيح أنّ عناوين الازمة التي أدت الى إطاحة رجل فرنسا التاريخي شارل ديغول، كانت داخلية فرنسية بَحتة، إلّا انّ أسرار التاريخ تروي أنّ جهاز المخابرات المركزية الاميركية CIA لم يكن بعيداً عمّا حصل، فهو عمل على مزيد من التحريض ضد الرئيس الفرنسي وصولاً الى إزاحته، إنتقاماً من القرار الفرنسي بالخروج من حلف شمال الاطلسي عام 1966.
كثيرون استذكروا ما حصل مع ديغول، وحاولوا إيجاد بصمات اميركية في التظاهرات التي وضعت فرنسا على حافّة أزمة كبيرة.
حتى الآن لا وجود لبصمات، ولا حتى لمصلحة اميركية، في الذي يحصل في عاصمة النور باريس كما يعتقد البعض ويشيرون، وهم بغالبيتهم من رجال الادارة الفرنسية، إلّا انّ طبيعة تحرّك المتظاهرين، وعدم وجود هيكلية فعلية لهم، وافتقادهم الى القيادة والتنظيم، كما ثبت لأجهزة الامن الفرنسية، لا يدفع الى الاعتقاد بوجود قوة تقوم بتحريكهم.
في المقابل، لا يوافق الفريق الآخر على «براءة» تحليل الفريق الثاني. ويعتقد هؤلاء انّ عدم وجود قيادة فعلية للمتظاهرين يعطي الدليل الاكيد على وجود بصمات خارجية، حيث تتولى وسائل التواصل الاجتماعي، وفي طليعتها «الفيسبوك»، تحريك هؤلاء وإثارتهم عبر حسابات وهمية. ومعروف مَن هو قادر على التحكم بهذه الوسائل، كما أنّ الخلافات الاميركية الفرنسية واضحة من الأمن الى الاقتصاد وأسواق ايران.
لكن، أيّاً يكن الاستنتاج الصحيح للاحداث الفرنسية، إلّا انه لا بد من الاعتراف والاقرار بأنّ فرنسا دخلت مرحلة جديدة قد تشهد في نهايتها تعديلات جديدة على الدستور، ما يعني ولادة الجمهورية السادسة.
وحتى لو ثبتَ وجود بصمات خارجية، إلّا انّ هذه الاحداث ما كانت لتندلع لولا وجود مشكلات داخلية كبيرة أشعلتها القرارات الضريبية الاخيرة.
الشعب الفرنسي لديه حساسية تجاه طبقة الاغنياء أو فاحشي الثراء، وإطلاق لقب «رئيس الاغنياء» على ايمانويل ماكرون يعني ذمّاً بالرئيس الفرنسي أكثر منه انتقاداً له.
ولا بد من الاعتراف أيضاً انّ فرنسا باتت تفتقد الى السياسيين من «القماشة» الرفيعة. هكذا، وخلال الانتخابات الرئاسية الاخيرة خصوصاً، كان الكلام السائد حول عدم وجود شخصية سياسية تستأهل انتخابها لقيادة فرنسا.
ووسط إحجام لافت عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية، استطاع ماكرون النفاذ والوصول الى قصر الايليزيه على رغم صِغَر سنّه.
لكنّ الرئيس الفرنسي لم يحسن قراءة معاني تراجع نسبة المقترعين الفرنسيين، فانطلق في تطبيق برنامجه الاصلاحي الصعب، والذي ما لبث ان انفجر في الشارع.
وفي الازمة الفرنسية كثير من وجوه الشبه مع الواقع الذي يرزح تحته لبنان، صحيح انّ التركيبة اللبنانية لا تشبه التركيبة الفرنسية بشيء، لكن من الخطأ إشاحة الوجه عن تَشابُه كبير في بعض وجوه الازمة.
منذ العام 2005 واللبنانيون يَعِدون أنفسهم بآمال، ويبنون احلاماً على انقاض الانسحاب السوري من لبنان. لكن سرعان ما كانت آمالهم تتبدد وأحلامهم تتكسر إثر اصطدامهم بالواقع المر عند كل استحقاق، لا بل أكثر، فإنّ الطبقة الوسطى تتراجع لمصلحة الطبقة الفقيرة مع نشوء طبقة الفقر المدقع. أما طبقة الأثرياء فتشهد أعضاءً جدداً، يُصادف أنهم يدخلونها من باب السياسة.
والفساد ينخر معظم جسم الادارة اللبنانية، والصفقات المشبوهة باتت حديث وسائل الاعلام والصالونات. وفي المقابل لا يوجد موقوف واحد بتهمة الفساد، لا بل على العكس يجري استهداف وسائل الاعلام والمنتقدين على أساس «هل لديك دليل؟»
والمؤسف انّ لبنان، ووفق التصنيف العالمي للفساد، إحتلّ المرتبة 143 في 2018، بعد ان كان في المرتبة 72 في 2005. والمثير للسخرية انّ مواقف السياسيين والمسؤولين تركّز كل يوم على إدانة الفساد والعمل على محاربته ومحاربة الفاسدين، بينما في الواقع نرى الفساد ينهش جسم الدولة اللبنانية وكل مفاصلها.
واذا كان الفرنسيون قد «نَعتوا» رئيسهم برئيس الاغنياء، فلا بد من وصف الانتخابات النيابية الأخيرة بانتخابات «المتموّلين». فعلى رغم من إنتاج قانون جديد للانتخابات يرتكز نظرياً على النظام النسبي فيما هو يختزن كثيراً من التناقضات، فإنّ الناخبين اللبنانيين، وبدلاً من أن ترتفع نسبة المقترعين عندهم، نراها تراجعت بنحو لافت بما يشبه تراجع المقترعين الفرنسيين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. وهذا ما أدّى الى مجلس نيابي لبناني لا يمثّل، في حده الأقصى، نسبة 20 في المئة من الشعب اللبناني، إن لم يكن أقل.
والواضح انّ حالة اعتراض واستياء تزايدت في الشارع اللبناني، بعدما طغت العوامل المالية على تشكيل اللوائح، وكانت اسماء المتمولين هي الابرز على ما عداها، ما أنتجَ مجلساً نيابياً يرتكز قسم لا بأس به منه على ذهنية التجارة لا السياسة، وعلى مبدأ المقايضة لا التشريع.
وفي إحجام اللبنانيين عن المشاركة في الانتخابات بعد 9 سنوات من الغياب ما يؤشّر الى استياء مَكبوت، لكنه قد لا يتأخر في الظهور عند أول منعطف كبير. وقد يشكل التعثر الحكومي هذا المنعطف وسط أزمة اقتصادية خانقة تشهد إفلاسات وطرد عمال وموظفين، إضافة الى مخاطر حقيقية على الوضع النقدي للخزينة اللبنانية. أضف الى ذلك أنّ مؤتمر «سيدر» على شفير الضياع، في مقابل تزايد الفساد على رغم «دَجل» استنكار المسؤولين.
فالمعركة حول الحكومة تكاد تنتقل من معركة حصص وجشع وحسابات الاستحقاق الرئاسي المقبل، الى الدخول في أزمة تطاول النظام وإدخال تعديلات عليه. فبعد أيام، من المفترض ان يرسل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كتابه الى المجلس النيابي، وهو أبلغَ ذلك الى الدائرة المحيطة به. وفي المقابل أبلغَ الرئيس سعد الحريري الى حلفائه، ومن بينهم «القوات اللبنانية»، انه اتخذ قراره النهائي بعدم التراجع عن موقفه بما معناه انه لن يعطي المخرج من حصته، وأنّ الحل الوحيد المُتاح هو من حصة رئيس الجمهورية. وبالتالي، فإنّ الحريري، الذي يراهن على تعزيز وضعه على الساحة السنية، سيتغيّب عن الجلسة، وستتضامن معه «القوات اللبنانية» فيما سيعمد رئيس المجلس النيابي نبيه بري، على الأرجح، الى عدم الدعوة للجلسة إنسجاماً مع المبدأ الذي يسير عليه وهو بعدم انعقاد الجلسة في حال غياب مكوّن كبير مثل تيار «المستقبل» من السنّة. لا بل انّ بري أبلغَ، بإسمه وبإسم «حزب الله»، الى المعنيين عدم الموافقة على إحراج الحريري بهدف إخراجه، وان لا بديل منه لتشكيل الحكومة.
واذا أخذ هذا السيناريو مساره، فهو سيعني دخول البلاد في أزمة حكم ستشتد وطأتها مع الكارثة الاقتصادية التي سيكللها ضياع مؤتمر «سيدر». عندها، ستكون بيروت قريبة جداً من باريس مع فارق أنّ مؤسسات الدولة الفرنسية في خير، وأنّ الدستور يُظلل الجميع، وأنّ اقتصاد الدولة الفرنسية ليس خطيراً، فيما مؤسسات الدولة اللبنانية مهترئة ولكل فريق تفسيره الدستوري، والأزمة الاقتصادية تكاد تخنق كل بيت.