رفض الأديب والشاعر جبران خليل جبران تتميم واجباته الدينية المسيحية الرسمية وهو على فراش الموت في مستشفى القديس فنسنت بنويورك. اقتربت منه الراهبة وسألته: ألست كاثوليكياً؟ أجابها: لا.
عندما توفي في 10 نيسان 1931 غلب الرأي داخل الكنيسة المارونية في نيويورك بحرمانه من رتبة الدفن، ولا عجب، فمنذ سنوات طويلة، والصحافة اليسوعية سواء في بيروت أو في نيويورك تندّد بأدب جبران باعتباره "دعاية ماسونية".
تدخل المونسنيور اسطفان الدويهي مؤسس "كنيسة الأرز"، وجار جبران القديم في بوسطن، لنقل الجثمان إلى عاصمة ماساشوستش، حيث دفن في جبانة "مونت بندكت" إلى جوار أمّه وشقيقته سلطانة وأخيه غير الشقيق بطرس، ليعود الجثمان وينقل بعد ذلك بأشهر قليلة، بحراً، إلى لبنان، وكان في استقباله أوّل رئيس للجمهورية اللبنانية، شارل دباس.
من جرى التردّد في دفنه كنسياً في أمريكا لأنه لم يتمّم واجباته الدينية الرسمية وهو على فراش الموت، بقي نهاراً وليلاً كاملين في كاتدرائية مار جرجس المارونية ببيروت، قبل دفنه في مسقط رأسه بشرّي على وقع الأجراس.
أسدلت الستارة عن "اللغط" حول الديانة التي كان يعتنقها جبران، وكانت كلمات المطران الماروني اغناطيوس مبارك حاسمة في ردّه إلى ديانة مهده، وعكفت الأيديولوجيا اللبنانية لاحقاً على اعتباره متمرّداً على الكنيسة، إنما في إطارها.
لقد سبق للموارنة أن تنازعوا مع المسلمين جثمان أحمد فارس الشدياق، الذي هجر مارونيته إلى البروتستانتية ثم إلى الإسلام، وتحوّل إلى أحد أبرز دعاة الجامعة الإسلامية في القرن التاسع عشر، وانتهى الأمر بـ"تسوية" تجنبت الإشارة الواضحة إلى هويته الدينية النهائية عند دفنه في "مقبرة الباشاوات" في منطقة الحازمية...
فلم يكن من الصعب عليهم "استعادة" جبران من بعد وفاته، كما أنّه لم تنوجد جماعة مقابلة لتنازعهم عليه، وعلى متحفه.
رحلة عباس أفندي إلى الغرب
بيدَ أنّ جماعة دينية أخرى، غير طائفة تحدّره المارونية، نسبت جبران إليها ولم تزل. إنّها الطائفة البهائية.
لقد عمل البهائيون أكثر من سواهم على إشاعة أدب جبران والتشجيع على ترجمته إلى مختلف لغات العالم، وطوّروا تفسيرات مفصّلة لمختلف فقرات كتابيه "النبي" و"يسوع إبن الإنسان" من وحي الديانة التي أرساها حضرة بهاء الله (ميرزا حسين علي النوري المازندراني، ت 1892).
اعتبر بهاء الله أنّ الخالق يبعث رسله كـ"مظاهر إلهية" بين البشر، وأن الأديان تنبع من المصدر الإلهي ذاته، وأنّه "المربي الإلهي" الموعود الذي بشّر به الباب علي محمد بن محمد رضا الشيرازي (مؤسس البابية و"حضرة النقطة الأولى"). ثم أوصى بهاء الله بالرسالة من بعده إلى إبنه عباس أفندي (ت 1921) الذي صار يعرف بحضرة عبد البهاء.
لازم عباس أفندي والده في رحلة النفي من طهران مسقط رأسه إلى الأستانة فأدرنة فعكا، وبقي في الإقامة الجبرية إلى حين قيام ثورة تركيا الفتاة عام 1908 التي حرّرت حركته، فباشر التحضير لرحلة طويلة وتأسيسية باتجاه الغرب.
بخلاف والده، بهاء الله، الذين كان لم يزل يبني مذهبه في إطار لم ينفصل تماماً عن المهدوية الشيعية، كان عبد البهاء أكثر جذرية في تقصّده بناء ديانة جديدة بالكامل، وفي طرحها كديانة كونية بإمتياز، وفي الإدراك بأن التحدّي الأساسي يكمن في إتاحة السبيل لهذه الديانة بأن تشيع بين الشرقيين والغربيين على حد سواء.
فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، أولى عبد البهاء عنايته للمجموعات البهائية الصغيرة في أوروبا وأمريكا، وأشرف على تزويدهم بما يلزمهم من مؤلفات ومعلّمين من بلاد فارس.
ومع تحرّره من قيود الإقامة الجبرية، عوّل عبد البهاء تحديداً على رحلته إلى أمريكا، إذ لم يكتف باعتبارها "رحلة تبشيرية"، بل اعتبرها "رحلة حج" باتجاه ما خلع عليها لقب "مدينة العهد والميثاق"، مدينة "عهد بهاء الله مع شعوب العالم": نيويورك.
دعاة عديدون أتوا من الشرق وسبقوا عبد البهاء إلى العالم الجديد، ومارسوا تأثيراً على شريحة كبيرة من الأمريكيين.
يأتي في طليعتهم سوامي فيفيكانندا، الراهب الهندوسي الذي أبهر "البرلمان العالمي للأديان" عام 1893 بخطابه الذي قدم الهندوسية كصاحبة رسالة كونية من شأنها إشباع الجوع الروحي عند المسيحيين أيضاً، ولعب دوراً كبيراً في حث العديد من الأمريكيين والغربيين على طلب التأمل والرياضات من المعلمين الهندوس، فكان رائد "عولمة اليوغا".
لكن سوامي فيفيكانندا لم يكن هدفه بناء جماعة دينية من المعتنقين حديثاً للديانة الهندوسية، هذا بخلاف عبد البهاء الذي كان هدفه تأسيس مثل هذه الجماعة.
نيويورك مدينة مقدّسة
ألقى عبد البهاء أكثر من أربعمئة خطبة في الولايات المتحدة وكندا، ولم تقتصر موضوعاته على الإلهيات والروحانيات، بل اهتم اهتماماً كبيراً بالتقريب بين أتباع الديانات المختلفة، وكانت له لقاءات مع مرجعيات بروستانتية ويهودية، وطروحات طليعية في ذلك الوقت حتى بالنسبة لأمريكا.
إذ نادى عبد البهاء المولود في إيران، والذي أمضى سنوات طويلة في فلسطين، بالمساواة الكاملة بين الرجال والنساء، وإعطاء النساء حق التصويت، وحثّ على الزواج المختلط بالضد من الفصل العنصري، مشجعاً ومباركاً زواج المحامي لويس غريغوري الأسود البشرة ولويزا ماثيو البيضاء البشرة، ضمن الجماعة البهائية.
كما كان له كلام ضد العدوان الإيطالي على الدولة العثمانية (الذي طاول مدينة بيروت في ذلك العام).
وبما أن عبد البهاء كان منح مدينة نيويورك صفة دينية، كـ"مدينة العهد والميثاق"، مدينة تكريس الطابع الكونيّ للديانة البهائية، فكانت لإقامته في مانهاتن أهمية قصوى بالنسبة إلى رحلته.
وفي نيويورك، عمل معتنقو البهائية على التحضير لزيارته لشهور طويلة، وبرزت خصوصاً جولييت طومسون في هذا الإطار، وطومسون رسامة طلب منها إعداد لوحة للرئيس وودروو ويلسون، وقد اعتنقت البهائية بحماسة قبل سنوات من قدوم عبد البهاء، وعملت على إشاعة هذا الإيمان الجديد بين أصدقائها ومعارفها.
جولييت التي شبّهت جبران بشارلي شابلن
من هؤلاء جارها جبران خليل جبران، الذي كان يقيم في نيويورك من بعد بوسطن (وباريس) في ذلك الوقت.
استحسنت طومسون لوحات جبران والمسحة الرمزية والصوفية فيها، ولا يبدو أنّ كان هناك "إشكالية حميمية" بينها وبينه بخلاف ماري هاسكل، لكن تأثيرها عليه كان قوياً، وعادة ما يجري إهماله، إن يكن تأثير أسلوبها في الرسم، أو تأثيرها المتصل بتزويده بأعمال بهاء الله وعبد البهاء المتوفرة باللغة العربية.
بقيت طومسون صديقة وجارة لجبران لفترة طويلة بعد ذلك وكانت تستظرفه وتقارن شخصيته وحركاته بالممثل شارلي شابلن.
كان الأمريكيون يقبلون في ذلك الوقت على المعلمين الهندوس الذي واصلوا درب فيفاكنندا. ويبدو أنّ جبران نفسه كان استفاد من شائعة حوله في المدينة بأنه هندي آت من بومباي وليس سورياً آتياً من جبل لبنان (في ذلك الوقت برزت نقمة عنصرية في نيويورك على السوريين الجبل لبنانيين الذين كانوا يتوافدون بأعداد كبيرة وأغلب متسولي المدينة منهم)، ربما بالإفادة من الخطأ المطبعي عند تسجيله في الولايات المتحدة، فبدلاً من كتابة اسمه "جبران خليل"، كتب اسمه، "جبران كهليل" وهذا لا يزال معتمداً في الانكليزية.
في حضرة "مظهر الله"
تحمّس جبران للقاء زعيم البهائية. حضر كافة الفعاليات التي أقيمت له في نيويورك، إلى أن اتُفق في اليوم الأخير من إقامة عبد البهاء في نيويورك على لقاء في الصباح الباكر من الجمعة 19 نيسان 1912 مع جبران، وكان الحديث بالعربية بين الرجلين، واستأذنه جبران بعد الحديث بأن يرسم له "سكتشاً".
قبيل اللقاء بليلة وصل جبران الخبر المفجع حول غريق باخرة "التايتانك"، بمن فيه من مسافرين من جبل لبنان، وساهم لقاؤه مع الزعيم البهائي في سكينته الروحية في اليوم التالي.
صورة حضرة عبد البهاء كما رسمها جبران عندما التقاه
يوحي رسم جبران لعبد البهاء بمدى الإبهار الذي أحدثه في نفسه، إذ جعله رمزاً للحكمة المجسّدة والوقار.
في المراجع البهائية، أن جبران وصف عبد البهاء بـ"الإنسان الكامل" و"مهبط روح القدس"، أما جولييت طومسون فتنقل عن جبران قوله لها في فترة إعداد "يسوع إبن الإنسان" إن محيا عبد البهاء كان يرافقه طيلة فترة إعداد الكتاب.
تنقل مراجع البهائيين أيضاً أنه، بعد سنوات طويلة على زيارة عبد البهاء لنيويورك، أقام المركز البهائي في المدينة مناسبة لإحياء ذكرى هذه الزيارة بفيلم توثيقي لها، وأنّ جبران وقف في تلك الأمسية ليعلن على رؤوس الإشهاد "إن عبد البهاء هو مظهر الله"، ثم يجهش بالبكاء.
"النبي" و"أورفليس": عبد البهاء ونيويورك
بالإضافة إلى تفسيرات عديدة عن هوية "نبي" جبران، يبرز أيضاً التشخيص "البهائي" له، وهو تشخيص يُخرج كتاب جبران من كونه مجرّد محاكاة لـ"هكذا تكلم زردشت".
فهذا "النبي" القادم هو، استناداً لهذا التشخيص، عباس أفندي، عبد البهاء، القادم إلى مدينة أورفليس ليجيب عن أسئلة "المطرا"، هذه الشخصية الخرافية الهندو-إيرانية، وأورفليس هي مدينة العهد كما صنّفها عبد البهاء.
نحن بالأحرى أمام شيء من قبيل: "هكذا تكلم عبد البهاء". وبالفعل، عدد كبير من فصول كتاب "النبي" يتلاقى مع التصور البهائي عن الدين والمعرفة والحب والإنسان والموت.
نقرأ في فصله حول ماهية الدين أن "أوقاتكم جميعاً لأجنحة تضرب في الفضاء متنقلة من نفس إلى نفس"، وأن "من يرى في العبادة نافذة يفتحها لم يستطع أن يغلقها، فإنما لم يلم بعد بمسكن روحه، حيث النوافذ تُشرع من فجر إلى فجر".
لسنا بعيدين، هنا، أبداً، عن الطريقة التي تقدّم بها الديانة البهائية فيها فكرتها عن الوحي الذي لا ينقطع "من فجر إلى فجر".
أياً يكن من شيء، يحظى كتاب "النبي" لجبران باهتمام تفسيريّ عند البهائيين، جيلاً بعد جيل، ككتاب عرفاني بامتياز، وليس كمجرد كتاب شعري أو وعظيّ كما هي الحال عند كثيرين سواهم.
لا يمكن الفصل في معرفة إلى أي درجة كان يعتبر جبران نفسه بهائياً، خاصة أن عبد البهاء حين زار أمريكا لم يكن قد ألزم أتباعه بعد بحصرية انتمائهم إلى ديانته وانفصالهم عن الديانات الأخرى، وهو ما سيفعله لاحقاً.
أما ما لا يمكن إنكاره قط فهو التأثير الذي مارسه عبد البهاء على جبران في كتابيه "النبي" و"يسوع ابن الإنسان". أورفليس كانت نيويورك، والنبي كان بمحيا عبد البهاء، وغير بعيد عن "جانبه البهائي" هذا، كان التقديس الذي يظهره جبران للإمام علي، إذ اعتبره "كلام الله الناطق".