مع عبق البخور، ندخل صباحاً إلى مكتب الرئيس فؤاد السنيورة، في شارع بلس. يختار صالوناً مطلّاً على حرم الجامعة الأميركية لبيروت. من حيث يجلس، يمكنه مشاهدة سطوح القرميد الحمراء، والاخضرار الممتد على مساحة استثنائية بين بلوكات العاصمة الإسمنتية. المشهد لا يشير إلى بيروت، خصوصاً إذا ما تم ربطه ببضع لوحات توزعت خلفه لبيوت قروية لبنانية. الرجل بكامل حيويته. على طاولته جملة ملفات لا تنتهي. كتب وأوراق ودوريات مكدّسة. والبخور يتسرّب وفق الطقس اليومي للسنيورة، يبعث في أجواء مكتبه الصفاء والهدوء، كأسلس تدبير لبداية نهار جديد.
مذكرات، اقتصاد، متاحف
ينهمك في متابعة السابق والآتي. لا يزال يتابع مشاريع عديدة تفتتح اليوم، بينما التحضير لها كان قد بدأ أيام رئاسته للحكومة. من المكتبة الوطنية التي افتتحت قبل يومين في الصنائع، والتي يصفها بالصرح الثقافي والوجه الحضاري لبيروت إلى غيرها من المشاريع. درجت العادة في لبنان أن يخطف اللاحقون مشاريع السابقين. كثيراً ما يغيّب الغائب عن موقع المسؤولية. وقلائل هم الذين يعرفون أن مشروع ترميم المكتبة الوطنية، كان نتاج عمل السنيورة ومتابعته منذ العام 2006 إلى العام 2009، حين زار أمير قطر حينها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وطرح عليه فكرة احياء المكتبة الوطنية في بيروت، وان تتولى قطر إحياء هذا المشروع. وبعد موافقته، زارت زوجته الشيخة موزة لبنان، بدعوة من قرينة السنيورة، لوضع حجر الأساس للمكتبة الوطنية.
ينشغل السنيورة في إعداد وكتابة مذكراته. يغرق في قراءة آخر الدوريات والتقارير عن تطورات الأوضاع في العالم، إلى جانب شغفه بالإقتصاد ومتابعة مؤشراته، لا سيما على الصعيد اللبناني. يعبر جبال الإهتمامات هذه، ليطلّ على الثقافة. لا يخفي أنه مولع بالثقافة والأدب. ولذا، يلجأ إلى التذكير بجملة مشاريع لتشييد صروح ثقافية في لبنان، إبان ترؤسه للحكومة. فإلى جانب المكتبة الوطنية، استحصل على هبة عُمانية لتشييد المركز الثقافي العماني - اللبناني في وسط بيروت، والذي يعرقل إنجازه تجاذب بين الحكومة اللبنانية وشركة سوليدير. يعبّر عن أسفه لمشروع يهدف إلى نقل المركز من وسط بيروت إلى شمالها بالقرب من الكرنتينا، ويقول: "سيفقد الوسط معناه، ويبتعد عن الناس". أقنع الكويتيين بتمويل المتحف التاريخي لمدينة بيروت، الذي سيقام في تلّ بيروت، حيث الأصل الفينيقي للمدينة القديمة. متحف يجمع آثاراً تمتد إلى خمسة آلاف عام، من العصر البرونزي، إلى آثار الحقبة العثمانية. أما المشروع الرابع فهو إنشاء متحف صيدا، وأيضاً بهبة من دولة الكويت.
يمثل متحف صيدا الأول من نوعه للمدينة، ويضيء على حقبات يغلّفها الظلام من تاريخها، متحف يعيد تدوين تاريخ صيدون القديم، عبر تسلسل المراحل التاريخية، المبتدئة من الحقبة البرونزية قبل 3000 عام قبل الميلاد وصولا إلى العصر الفينيقي والروماني الفارسي وبعض الاسلامي. وسيحوي معبداً وهياكل عظمية كاملة، وأكثر من مليون قطعة فخارية أثرية، عدد قليل منها سليماً، والباقي مكسورة ومبعثرة، اضافة إلى 108 هياكل عظمية لأطفال ومحاربين كنعانيين.
يأسف السنيورة إلى الواقع الثقافي المرير الذي وصلت إليه الحال في لبنان. ويقول: "هذا المضمار الوحيد الذي يجب عدم التعاطي معه بموجب المحاصصة الطائفية والمذهبية والسياسية". السياسة تدمّر الثقافة كما تدمّر الإقتصاد: " وأنا مع تطبيق قاعدة إعطاء المسؤوليات إلى أكفائها، لكن مع الأسف يدفع لبنان ثمناً باهظاً لعدم تطبيق هذه القاعدة". يشير في كلامه إلى أهمية المكتبة الوطنية، وتحويلها إلى صرح ثقافي يجمع كل المثقفين بمعزل عن إنتماءاتهم، على عكس ما جرى في مجلس إدارتها وإستبعاد الأكفأ لصالح الأقرب إلى مرجعية أو جهة".
السياسة والمروءة
التدهور المعاش، والحالة المزرية التي يعيشها لبنان، مردّها إنعدام المروءة، حسب السنيورة. يستعيد هنا قصة فرس أصيلة أراد صاحبها المحافظة عليها. ويروي: " كان الرجل يتباهى بفرسه. كثر طلبوا منه ابتياع الفرس لكنه رفض، إلى أن وقع في مكيدة. ذات يوم وخلال تجواله على صهوة فرسه، وجد رجلاً ملقى على الأرض، يئن. ترجل عن صهوة فرسه لمساعدة الرجل، أعانه لركوب الفرس للذهاب به إلى منزله، وما إن تمكّن الرجل من لجامها حتّى أطلق جماحها هارباً. توجه السارق إلى صاحب الفرس بالقول: أرسلت لك مرات عديدة بأن تبيعني الفرس وكنت ترفض، وها إني قد حصلت عليها من دون دفع ثمنها. فأجابه الفارس بأن لا يقول كيف أخذها، وعندما سأله السارق لماذا، أجاب: حتى لا تموت المروءة بين الناس".
مولع بالأدب والشعر فؤاد السنيورة. فقدان الثقافة يدفع مجتمعاً بأسره إلى الإبتعاد عن المروءة. لا ينفي شعوره بالخيبة مما آلت إليه الأوضاع في لبنان، وأن ثمة مشاريع كثيرة لم يتم انجازها. لكنه يؤكد أنه مستمرّ بالتمسك بالأمل: " لا أكلّ ولا أملّ، نحن محكومون بالأمل". ولذلك لا يبدو أنه قد ترك السياسة. اهتماماته كثيرة، على الصعيد الوطني والعربي، وعند سؤاله عن طموحاته يجيب ضاحكاً: "لا زلت في بداية عمري، والأساس لدي هو العمل على الأمور الفكرية".
علّة "التوافقية" والجنون
يعود إلى السياسة التي ساءت أحوالها كثيراً. إعادة تصويبها ترتكز على الإلتزام بالبديهيات، احترام الدستور، الإلتزام بسلطة الدولة، احترام القضاء، وتسليم المسؤوليات إلى أكفائها. السياسة في لبنان تحتاج إلى ثورة، تبدأ برفض مبدأ الديموقراطية التوافقية، التي تمنح الطوائف حقوق الفيتو على قرارات الدولة. وتسهم في تأزيم النظام اللبناني، الذي يصف أزمته بأنها أزمة ممارسة سياسية. لا يخفي وجود صراع على النفوذ والصلاحيات، وهذا كان بدأ مع بعض التصرفات التي أقدم عليها رئيس الجمهورية، وهي نابعة من تفكير لديه بأن لا صلاحيات لديه. لكن، حسبه، لو يعود الجميع إلى الدستور والبديهيات، سيتوضح أن رئيس الجمهورية هو صاحب الصلاحيات الأكبر، بوصفه حامياً للدستور، وصاحب القوة الناعمة. لكن ما يجري في البلد، وهو انعكاس لمفهوم عالمي يتعمم، يُختصر بوصفه "حفلة جنون". تظهر في بدع يتم اجتراحها مؤخراً في عملية تشكيل الحكومة، وآلية تحديد الحصص والوزراء.
لا يحبذ الدخول في تفاصيل اليوميات السياسية، أو الحديث عن كيفية حلّ الأزمة الحكومية. مع ذلك يقدم طرحاً جذرياً ومباغتاً. بالنسبة إليه، ما يجري يحتاج إلى "قلب الطاولة، والذهاب إلى فرض حكومة من 14 وزيراً يتمثّل فيها الأقطاب". برأيه، حجم المشكلات وعمقها يقتضي حضور أصحاب القرارات وليس من ينوب عنهم. لعلّ هذه الخطوة تعيد الجميع إلى رشدهم وإنقاذ ما تبقى من دولة، تتآكلها الأحزاب والقوى الطائفية. صحيح أن هناك تصويباً ممنهجاً على إتفاق الطائف، بالممارسة وبالقول، لكنه لا يبدي خوفاً عليه، معتبراً أنه لن يكون لدى اللبنانيين خيار آخر.
مصلحة العرب
باختصار، ينظر بقلق إلى الوضع الإقتصادي، يعتبر أن كل يوم يمرّ يفاقم من صعوبة مواجهة المشكلات الأساسية. وهو من القلائل الذين يدركون المعنى الفعلي لكلمة "أزمة": "الملاءة السياسية تؤدي إلى الملاءة الاقتصادية"، والانحدارعندما يبدأ يصيب مختلف المجالات.
وبخصوص المشهد الإقليمي، وهو "القومي العربي" العتيق، لا يوافق السنيورة على نظرية خسارة المحور العربي المعتدل، ويقول "لا بد من قيامة بعد سبات". لكنه يستدرك كي لا يبدو تفاؤله ساذجاً، فيقرّ بأن ما يجري يؤشر إلى خلل إستراتيجي في موازين القوى. وهذا يدعو إلى الإنزعاج والقلق، لأن كل ما يحدث راهناً، يصب في صالح أعداء العرب، على مختلف تنوعاتهم. إلا أنه يؤكد: "أنا مؤمن بمقولة لا بدّ لليل أن ينجلي".