حكاية "أمير الشهداء"، كما يعرفه المسيحيون، اختلطت وامتزجت ببعض الموروثات الشعبيّة القديمة، كما أنها قد صيغت في المدوّنة القصصيّة الإسلاميّة بطريقة تنسجم مع العقائد والمبادئ الإسلاميّة، وفي الوقت نفسه صارت جزءاً لا يتجزّأ من التديّن الشعبي المعاصر.
القصة التقليديّة: أمير مسيحي حافظ على إيمانه رغم الإغراءات والتعذيب
من المراجع المهمّة التي تمدّنا بأخبار وتفاصيل قصة مارجرجس، كتاب "تاريخ وميمر وتمجيد حياة الشهيد العظيم بطل الشهداء مارجرجس وعجائبه" للقمص عبد المسيح سليمان، وكتاب "الشهداء" للدكتور زكي شنودة مدير معهد الدراسات القبطيّة الأسبق.
بحسب ما ورد في الكتابين، فإن جرجس قد ولد في عام 280م، وترجع أصول عائلته إلى اقليم كابادوكيا في أسيا الصغرى، ومن هنا جاءت نسبته في بعض المراجع، فأُطلق عليه جرجس الكبادوكي.
تذكر المصادر أن والد جرجس، أنسطاسيوس كان صاحب نفوذ قوي في الإمبراطورية الرومانية، حتى أنه عُيّن كحاكم لمدينة اللد في فلسطين، وفيها ولد جرجس وتربى وعاش فترة الطفولة والمراهقة.
ولما كان أنسطاسيوس قد اعتنق المسيحيّة رغم الحظر الذي فرضه الإمبراطور دقلديانوس على اعتناقها، فإنه قد قُتل وعيّن مكانه والي أخر، وتخبرنا المصادر أن الوالي الجديد قد استقدم إليه ثاؤبيستا أم جرجس، فأكرمها وطيّب خاطرها وتعهّد ابنها بالرعاية، وضمّه إلى سلك الجنديّة، فلما بلغ مبلغ الشباب عقد خطبته على ابنته الوحيدة، وأوصى له بملكه وجميع أمواله، وفي الوقت نفسه رسمه كقائد على مجموعة من الجند وأرسله في سفارة إلى الإمبراطور.
تتفق المصادر على أن دقلديانوس قد أُعجب كثيراً بشجاعة جرجس وفصاحته، وأنه قد عيّنه أميراً على 500 جندي، كما أوكل إليه تحصيل الجباية من مجموعة من القرى، ونلاحظ أنه في تلك الفترة تحديداً عُرف جرجس بالروماني، لكونه كان يخدم في الجيش الإمبراطوري، وهي التسمية الأشهر له.
كل ذلك المجد الدنيوي، توقّف دفعة واحدة بعد وفاة أمير اللد، فبحسب المصادر، أنه لمّا قاربت لحظة زواج جرجس، فإن ملاك الرب قد ظهر للشاب العشريني، وأخبره بأن الرب قد اختاره ليصبح أمير الشهداء، وأنه هو الشخص الذي وقع عليه الاختيار ليتحدّى أوامر الإمبراطور الوثني الكاره لكلّ ما هو مسيحي.
ولما حان وقت تنصيبه كحاكم لمدينة اللد، سافر جرجس إلى نيقومديا عاصمة الإمبراطورية، ليتقلّد حكم المدينة أمام الإمبراطور وتسعة وستين أميراً من جميع أنحاء الدولة، وسرعان ما جاهر الشاب المسيحي بإيمانه بيسوع، ودخل في سلسلة من المجادلات والمناقشات الغاضبة مع الإمبراطور، أعقبها الزجّ به في السجن، وتعريضه لأساليب التعذيب القاسية التي تفنّن الرومان في ابتكارها.
لكن تلك الضغوطات لم تؤثّر شيئاً في عزيمة جرجس، الذي بقي محافظاً على إيمانه، كما أنه لم يستسلم للإغراءات التي عرضها عليه الإمبراطور، وظلّ هكذا حتى أمر دقلديانوس بقتله في 303م، وكان عمره وقتها ثلاثة وعشرين عاماً.
غردتدور أحداث قصة مارجرجس في بعض الأحيان في بيروت، وفي أحيان أخرى في فلسطين، وكذلك يقال إنها وقعت في ليبيا أو في آسيا الصغرى أو أوربا، وهو الأمر الذي يتفق مع الحكايات الوطنيّة المتعدّدة التي رافقت شخصيته في العديد من مدن العالم القديم
غردمعظم الروايات الإسلامية التي تطرّقت للحديث عن مارجرجس (جرجيس)، اختلفت عن المصادر المسيحيّة، فمنها ما اعتبره نبياً، ومنها ما قدّم من الفترة التاريخية التي ظهر فيها، ليصبح معاصراً للحواريين
غردفي الثقافة الشعبية دمجٌ بين مارجرجس والخضر، حيث يعتبر أن الاسمين يشيران لشخصيّة تاريخيّة واحدة
في الموروث الديني
من اللافت للنظر أن تفاصيل عذاب مارجرجس وسيرته مع الإمبراطور دقلديانوس، قد جمعت الكثير من المآثر المعروفة للأنبياء والرسل السابقين.
فعندما ذهب إلى بيت الأصنام، قام بتكسير الأوثان الحجرية كلّها، كما وقع مع النبي إبراهيم في الرواية الإسلاميّة، وعندما حاول الإمبراطور أن يغريه ويستميله وأدخل عليه في سجنه فتاةً بارعةَ الحسن والجمال، رفض جرجس هذا الإغراء القوي، وتعفّف عن الخطيئة كما ورد في قصّة النبي يوسف.
أيضاً نلاحظ صبر جرجس على العذاب والبلاء الشديدين الذين تعرّض لهما في محبسه، وهو ما يتشابه مع صبر النبي أيوب الذي ضُربت فيه الأمثال، أما تحدّي الساحر اثناسيوس والانتصار عليه وإيمان الساحر بالمسيح، فهو أمر يتماثل إلى حدّ بعيد مع ما جرى بين النبي موسى وسحرة فرعون.
القيامة من الموت، بل وإحياء بعض الأموات، كانت أحد المعالم التي اقتربت فيها قصّة جرجس من قصّة يسوع المسيح نفسه، بحسب التصوّر المسيحي لها، أما رفع جرجس إلى السماء بعد نياحته، وقدوم الرب إليه وسط جوقة الملائكة المعروفين بالكاروبيم، فهي تذكّرنا بمشهدي رفع الأنبياء أخنوخ وإيليا إلى السماء، كما ورد في أسفار العهد القديم.
من هنا يمكن القول إن سيرة مارجرجس، كانت سيرة جامعة، حَوَتِ العديد من المؤثّرات الدينيّة الكتابيّة المختلفة، التي تضافرت مع بعضها البعض لتصنع صورة مثاليّة لبطل تجسّدت فيه المحن التي تعرّض لها المسيحيون في عصر الاضطهاد.
القصة الأشهر: قاتل التنين
من أشهر القصص التي نسبت إلى مارجرجس، قصّته مع التنين والفتاة التي خلّصها من بين براثنه.
القصّة باختصار تحكي أن تنيناً هائلاً قد سكن بجانب أحد الأنهار القريبة من مدينة بيروت، وكان يقوم بقطع طريق النهر ويمنع الناس من الانتفاع به، وفي سبيل إرضائه، كان البيروتيون يقدّمون له كلّ عام فتاة عذراء جميلة ليلتهمها، مقابل أن يسمح لهم بالوصول للماء.
في أحد الأعوام، وقعت القرعة على بنت حاكم المدينة، لتصبح هي القربان البشري المقدّم للتنين، ورغم المحاولات المضنية التي قام بها الملك العجوز لإنقاذ ابنته الوحيدة، إلا إن شعبه أصرّ على تنفيذ القرعة وتقديم الفتاة للتنين.
هنا تبرز صورة مارجرجس على هيئةِ فارسٍ شجاعٍ مقدامٍ ذائعِ الصيت والشهرة في المنطقة، لدرجة أن الملك اليائس قد تمنى أن ينجده من الشرّ المحدق به وبابنته، وبالفعل توضّح القصة أن جرجس لبّى النداء، وقَدِم على حصانه ومعه سيفه ورمحه، ووصل النهر في الوقت الذي كانت فيه بنت الملك تنتظر مصيرها المرعب.
بحسب ما ورد في القصّة فإن جرجس قد نادى على الفتاة وطمأنها، ثم تقدّم للأفعوان الضخم، وغرس رمحه الطويل بين عينيه، وبذلك خلص الفتاة من الموت وقضى على الشرّ الذي عانت منه المدينة لسنوات طويلة.
وكنوع من الشكر والعرفان، يعتنق الملك وأهل المدينة جميعاً الديانة المسيحيّة ويؤمنون بالمخلّص يسوع الذي أرسل لهم جرجس الشجاع ليزيح عنهم الخطر. وفي إحدى النهايات المعروفة للقصة، يتزوج جرجس من الأميرة بعد أن أنقذها.
عرس القديس مارجرجس (1864) لـDante Gabriel Rossetti، من مقتنيات متحف نو ساوث ويلز
رغم الشهرة العظيمة التي حقّقتها تلك القصة، إلا أن أغلبية الباحثين يرون أنها نوعاً من أنواع القصص الشعبيّة الفلكلوريّة التي انتشرت في القرون الوسطى، والتي عملت على تمجيد وتعظيم أبطال العالم المسيحي الكبار، وكان على رأس هؤلاء أبطال العالم المسيحي السبعة، والذي يعدّ جرجس واحداً من بينهم.
في 1260م، قام يعقوب دي فراغسي بتدوين قصص هؤلاء الأبطال في كتاب "الأسطورة الذهبية"، المكتوب باللغة اللاتينيّة، فانتشرت مرويّاته في عموم البلاد الأوروبيّة، وانتقلت فيما بعد للمشرق.
المُلاحظ أن قصّة جرجس والتنين لها جذور عميقة في الثقافتين الغربيّة والمشرقيّة، وهي لم تظهر بشكل مفاجئ، فإذا رجعنا للميثولوجيا اليونانيّة، لوجدنا قصة البطل بيرسيوس ملك أرجوس، الذي استطاع انقاذ الأميرة الجميلة أندروميدا، من وحش البحر الذي كاد يلتهمها.
أما في الميثولوجيا المشرقيّة القديمة، فنستطيع أن نجد الإله الفينيقي بعل، الذي تذكر النصوص الأوغاريتية، أنه كان يحارب التنين الضخم، وأنه تمكّن من قتله والقضاء عليه، كما نستطيع أن نجد تشابهاً كبيراً بين قصة جرجس والتنين، وقصّة الإله المصري حورس الذي طعن بحربته الإله ست، المتجسّد في شكل التمساح.
ومن الملاحظ أيضاً أن قصّة التنين قد تلوّنت عبر التاريخ لتصطبغ بصبغات محليّة وطنيّة مختلفة، فهي في بعض الأحيان تقع في بيروت، وفي أحيان أخرى في فلسطين، وكذلك يقال إنها وقعت في ليبيا أو في آسيا الصغرى أو أوربا، وهو الأمر الذي يتفق مع الحكايات الوطنيّة المتعدّدة التي رافقت شخصية مارجرجس نفسه في العديد من مدن العالم القديم.
ورغم الاتفاق على خرافيّة القصة، إلا إنها قد وجدت السبيل لتتمثّل في واحدة من أشهر أيقونات المسيحيّة عبر تاريخها، وهي تلك التي اقتبستها لوحة الرسام الإيطالي المشهور رفائيل:
ويذكر حنا جاب الله أبو سيف في بحثه "أيقونة الشهيد العظيم مارجرجس الروماني"، أنه قد جرى تفسير الأيقونة بشكل رمزي، بحيث أضحت الفتاة الجميلة، ترمز للكنيسة، والتنين أضحى رمزاً للشرّ والكفر، أما الحربة فهي الصليب المخلّص.
في المدونة القصصية الإسلامية
مما لا شك فيه أن المؤرّخين المسلمين قد تعرّفوا على شخصية القديس (جرجيس) من خلال القصص والسرديات الكثيرة التي سمعوها عنه من جانب المسيحيين الذين تعاملوا معهم في البلاد ذات الخلفيّة الثقافيّة المسيحيّة، وبالأخصّ في بلاد الشام ومصر وآسيا الصغرى.
وكعادتهم، في محاولة تفسير القصص الديني السابق للإسلام وفق رؤية ومخيلة منبثقة عن العقائد الإسلامية، فإن سيرة مارجرجيس قد وردت في المدوّنات الإسلامية بشكل يختلف كثيراً عن سرديّتها التقليدية في العالم المسيحي.
ويلاحظ أن معظم الروايات الإسلامية التي تطرّقت للحديث عن جرجيس، قد اختلفت عن المصادر المسيحيّة في عدة أمور رئيسة، منها أنها أظهرته على كونه نبياً، وأيضاً أنها قدّمت من الفترة التاريخية التي ظهر فيها، ليصبح معاصراً للحواريين.
تعرّض الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، بشكل سريع لقصّة جرجيس، فقدّمه في صورة نبي من الأنبياء، ونقل على لسانه الكثير من الجمل التي تتماشى مع السرديّة الإسلاميّة التقليديّة، من ذلك أن الملك الكافر لما سأل جرجيس أن يعرّفه بنفسه، قال له "أنا عبد الله وابن عبده وابن أَمَته، أذلّ عباده وأفقرهم إليه، من التراب خلقت، وفيه أصير..."، وكذلك أن جرجس لما دعا الله في عذابه الأخير، قال:
"اللهم أنت الذي أكرمتني بهذا البلاء لتعطيني به فضائل الشهداء، اللهم فهذا آخر أيامي الذي وعدتني فيه الراحة من بلاء الدنيا، اللهم فإن أسألك ألا تقبض روحي ولا أزول من مكاني هذا حتى ينزل بهؤلاء القوم المتكبّرين من سطواتك ونقمتك، ما لا قبل لهم به، وما تشفي به صدري وتقرّ به عيني، فإنهم ظلموني وعذبوني".
أما المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، فلم يقطع بنبوّة جرجيس، وذكر قصته على نحو مقتضب، فقال:
"أن ممن كان في الفترة بعد المسيح عليه السلام: جرجيس، وقد أدرك بعض الحواريين فأرسله إلى بعض ملوك الموصل، فدعاه إلى الله عز وجل، فقتله، فأحياه الله وبعثه إليه ثانية، فقتله، فأحياه الله، فأمر بنشره ثالثة وإحراقه وإذرائه في دجلة، فأهلك الله عز وجل ذلك الملك وجميع أهل مملكته ممن اتبعه".
ويذكر أبو إسحاق النيسابوري الثعالبي، قصة القدّيس جرجيس في كتابه "عرائس المجالس"، على نحو من التفصيل، فيقول إنه لبث في سجن الملك لمدة سبعة أعوام كاملة، وأنه قُتل في تلك الفترة أربعة مرات، وأن الله ردّ إليه روحه في المرات الثلاث الأولى.
بحسب القصص الإسلامي، أثناء مناقشة مارجرجس مع الوثنيين، طلب منه أحدهم أن يعيد الكراسي والمائدة إلى سيرتها الأولى، فتحولت تلك الأشياء إلى أشجار مزهرة مخضرة
ويظهر التأثر بالثقافة الإسلاميّة واضحاً بشكل كبير في طريقة حكاية الثعالبي لقصّة جرجيوس، ذلك أنه أثناء مناقشته مع الوثنيين، طلب منه أحدهم أن يعيد الكراسي والمائدة إلى سيرتها الأولى، فتحولت تلك الأشياء إلى أشجار مزهرة مخضرة، وهو ما يأتي متسقاً مع التحدّي الإلهي الوارد في سورة يونس "إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ".
ونلاحظ أيضاً أن قصة جرجيس في المدوّنة الروائيّة الشيعيّة، قد حوت بعض التفاصيل التي تتوافق مع أصول ومعتقدات المذهب الشيعي، ويظهر ذلك في رواية أوردها المجلسي (1111هـ) في كتابه "بحار الأنوار"، ذكر فيها أن جرجيس لما ناظر الملك الظالم قال له فيما قال: "بعثني الله ليحتجّ بي عليكم..."، وهو القول الذي يتماشى ويتسق مع مفهوم الحجّية، التي يبني عليها الشيعة الإماميّة نظريتهم في الإمامة.
أيضاً نلاحظ أن بعض الاتجاهات الشعبية عملت على الدمج ما بين مارجرجس والخضر، حيث ربط البعض بين قرية الخضر الواقعة بالقرب من بيت لحم في فلسطين من جهة ودير مارجرجس الكبير الموجود في تلك القرية من جهة أخرى، واعتبر أنّ الاسمين يشيران لشخصيّة تاريخيّة واحدة، خصوصاً أن كلاً من مارجرجس والخضر قد نُسبت إليهم الكثير من الخوارق والمعجزات، في الثقافتين المسيحيّة والإسلاميّة على الترتيب.