ما بين الجدّي في التطورات والمؤشرات، بدءاً من التهديدات الاسرائيلية جنوباً، ووصولاً الى شتى مشاهد وعناوين الخلخلة المزمنة والمتنقلة بين البلدان، ولحظتها الراهنة في فرنسا، وما بين الهزل المضحك المبكي في الداخل، تبدو المسافة كبيرة.
كمّ التطوّرات الجدّية، ومنها المقلق او ما يحتاج للتحسب والاحتراز والتهيئة، يقابل بكمّ من القيل والقال في الداخل يبدو بلا آخر، وأزمة لم تعد تقتصر على عرقلة قيام حكومة، بعد مضيّ ستة أشهر على انتخابات نيابية، بل تتحوّل أكثر فأكثر الى أزمة معايير وقيم، وأزمة لغة، أزمة قابلية إعادة فتح ثغرة تتيح النقاش والتفاوض والحوار في هذا البلد.
من بعد الركود السياسي الذي طبع الخمسة أشهر الاولى من عرقلة تشكيل حكومة جديدة، اتى موسم التصلّب، والسقوف العالية، والحاجة الى اظهار معادلة الغلبة وعدم التكافؤ بين القوى في البلد، الامر الذي استفحل أكثر فأكثر مع المزيد من الابتعاد عن لغة الدستور، والمؤسسات. من بعد الركود، ثم التصلب، دخلنا في لحظة عبثية بالفعل، لحظة ينقسم القول بصددها، بين من يعتبرها توطئة للتبريد لاحقاً، وإزاحة العصي عن الدواليب التي تعترض سبيل التشكيل الحكومي، وبين من يعتبرها لحظة على طريق التسخين النوعي الآتي، والذي سيردم هذا الاستقرار الهش وغير المضمون الذي نراكمه مع ذلك منذ سنوات، في ظل شروط اللاتوازن داخلياً وإقليمياً.
في مكان ما، يبدو البلد كما لو انه تعوّد على تعطيل احدى المؤسسات الدستورية فيه، مرة الحكومة، مرة الرئاسة الاولى، مرة البرلمان. مثلما تعوّد أبناؤه على تعطّل قسم من وظائف الدولة، وانحسار رقعة سيادة قوانينها. ويبدو كما لو ان الناس مع ذلك تعيش يوماً بيوم، بالتي هي أحسن، رغم كل ضائقة وكل مصادر التوجس والقلق. مع هذا، ما زال البلد ينجح في تفادي منزلق الانهيار الشامل او الكبوة الشاملة، وما زال وضعه يختلف اذاً عن الحرائق المندلعة في الاقليم، عن مناخات الحروب الاهلية في المشرق العربي، رغم ان قسماً من اللبنانيين، "حزب الله"، مشارك في الحرب بسوريا، ولا يزال، ورغم أن "نزاع المحاور" ينوء بأثقاله على التركيبة اللبنانية ككل.
في لحظة كهذه، تسعى إسرائيل إلى توسيع استهدافاتها، بشكل يتعدّى ما دأبت عليه في السنوات الاخيرة، من استهداف لـ "حزب الله" في الداخل السوري. سيصطدم هذا باعتبارات عديدة ومتباينة، من شأنها تعقيد المسائل اكثر مع اسرائيل وسياستها تجاه لبنان. مع هذا، الاحتراز والتحسب والتهيئة، وربط كل ذلك مع العودة الى الجدّ في المسائل الداخلية اللبنانية، يظل الطريق الافضل.
الحاجة ضرورية الى "العودة الى الجدّ" في السياسة الداخلية. فالهزل السياسي لا يمكن، في مطلق الأحوال، ان يلائم هذه الفترة المتقلبة في كل مكان، وخصوصاً في المنطقة. منع تقهقهر الاستقرار الهش المحلي الى ما هو اكثر اضطراباً واحتداماً وتشنجاً، والحؤول دون تمادي العرقلة والتعطيل شهوراً اضافية، والحفاظ على حدّ أدنى من الإطار السياسي للتخاطب والتفاوض بين القوى، وإدراك خارطة الحساسيات ذات الطابع الطائفي دون اعتباطية واستنسابية، وإدراك ان التفاهمات الداخلية بمقدورها الإسهام بالفعل في رفع منسوب استعداد البلد ككل للتطورات الاقليمية، ومن جملتها التهديدات والاعمال العدوانية الاسرائيلية، كل هذا إما ان يدفع نحو نهج جديد في التفاعل، وإما ان لا يكون امام هذا النهج من أفق للتحقق. التقاط عنصر المبادرة من اجل "العودة الى الجدّ" يستحق دائماً المجازفة.