منذ أشهر قليلة، إن لم يكن منذ سنوات، تتداوَل المراجع العسكرية والدبلوماسية رواية الأنفاق التي حفرها «حزب الله» في الجنوب اللبناني وصولاً الى منطقة الجليل الإسرائيلية.
ومَن يراقب بدقّة مختلف التطورات التي رافقت الحديث عن الجبهة الجنوبية، يستذكر الحديث الذي نقل على ألسنة مسؤولي الحزب والمتحدثين المقرّبين منه عن شكل الحرب المقبلة مع إسرائيل، وصولاً الى القول انّ أحد مسارحها سيكون منطقة الجليل في الداخل الإسرائيلي بدل أن تكون حرباً تقليدية تبقى فيها الأراضي اللبنانية وحدها مسرحاً لها، كما حصل منذ الاجتياح الاسرائيلي حتى مجرى نهر الليطاني ومن بعده الى قلب العاصمة بيروت.
ويتذكّر كُثر السيناريوهات التي رسمت لاجتياح «حزب الله» الحدود الإسرائيلية الى قلب فلسطين المحتلة، والحديث عن مناورات تُحاكي المواجهات التي ستشهدها المستوطنات الإسرائيلية، تَوصّلاً الى الحديث عن مفاوضات تحدد آلية انسحاب «حزب الله» من منطقة الجليل الى الأراضي اللبنانية وليس العكس. وهي روايات تزامَنت مع حماوة العمليات العسكرية في سوريا، والحديث المتنامي عن دور «حزب الله» بعد حسم المعارك واستعادته مناطق وضعت المعارضة السورية يدها عليها.
وقبل الغوص في تفاصيل تلك المرحلة، تَجَدد الحديث عن هذه الأنفاق عندما باشرت اسرائيل قبل أشهر بناء الجدار الإسمنتي على طول الحدود اللبنانية مع الأراضي المحتلة، فقد «سَخّف» كُثُر من «محور الممانعة» الخطوة الإسرائيلية، وقَللوا من أهميتها طالما انّ «حزب الله»، الذي كسب ما كسبه من الخبرة القتالية في الحرب السورية، قادر على تجاوزها وهو ما يجعلها بلا أهمية استراتيجية في أي حرب مقبلة، لا بل فقد اعتبر بعضهم انه سيكون عائقاً أمام أي اجتياح اسرائيلي للمنطقة وليس العكس، وهو امر ستكتشفه إسرائيل ولو في وقت متأخر.
وعليه، توقف المراقبون أمام شكل المناورات التي نظّمتها الجبهة الشمالية الإسرائيلية في محاكاتها للحرب المقبلة على لبنان، والتي تحدثت في جزء منها عن المخاوف من القدرات القتالية للحزب وإمكان أن تكون الأراضي الإسرائيلية للمرة الأولى مسرحاً لها، والذي شَكّل يومها إقراراً غير مباشر بالسيناريوهات التي رَوّج لها «الحزب» بأنّ ساحة المعركة المقبلة مع اسرائيل ستكون جديدة في توقيتها وشكلها ووقائعها.
ولمَن يتذكر تلك الوقائع، عليه ألّا ينسى ما بَناه الإسرائيليون في حرب التعبئة على «حزب الله» من ردّات فِعل على استعراض القوة بالآليات والدبابات الذي قدّمه الحزب في منطقة القصير في 13 تشرين الأول العام 2016. وقد قيل يومها انّ هذا العرض وَجّه رسائل عدة الى الساحتين السورية واللبنانية، اللتين تَحوّلتا بالنسبة الى الحزب ساحة واحدة. لكنّ اسرائيل قرأته بطريقة مغايرة، فهي في رَد فِعلها قالت انّ «حزب الله» وضعَ يده على لبنان، وبات يشكّل خطراً اكبر على الدولة العبرية.
واستَغلّت اسرائيل مشاركة ناقلات جند من نوع «إم 113» في العرض لِتتّهم الجيش اللبناني بتسليمها للحزب، وهو ما تمّ نَفيه في حينه بالتأكيد أنها من مغانمه في حروبه مع «داعش العراقية» قبل دخولها الأراضي السورية. وقال لبنان الرسمي كلمته يومها لواشنطن بالمعنى عينه، فسقطت الذريعة الإسرائيلية، الى أن ظهرت هذه الآليّات في معارك «الحزب» في أرياف حلب وحماه، وثَبتَ انها لم تدخل الى لبنان ولم تصل الى الجنوب أيضاً.
وبمعزل عن تلك المراحل التي تحدثت عن أشكال الحرب المقبلة مع اسرائيل، فقد تذكّر الجميع الحديث عن الأنفاق الذي قام في أعقاب حرب تموز العام 2006.
واستندَت وسائل الإعلام العبرية والمحللون الإسرائيليون في حينه الى اعترافات الجنود الإسرائيليين في بعض قرى الجنوب، الذين شاركوا في معارك عيتنيت ومارون الراس البرية، عن خوفهم من ظاهرة عدم قدرتهم على معرفة مَن يقاتلون وأين وكيف. فقال أحدهم يومها: «لم نكن نعلم من أين يطلّون بيننا». وقال آخر: «ربما من تحت البلّانة» أو ربما «من تحت ايّ صخرة»، في إشارة الى الأنفاق التي استخدمت في تلك المعارك، والتي أبقَت القوات البرية الاسرائيلية أسبوعاً على أبواب الخيام والقرى المحيطة بها.
لا يتّسع المقال للعودة الى تلك المرحلة وتفاصيلها إلّا للإشارة الى انه، وبالرغم من كل هذه السيناريوهات الإسرائيلية التي تُحاكي الحرب الجديدة متى وقعت على الجبهة الشمالية، فالمراجع العسكرية والدبلوماسية تعترف أنها اكتشفت الأنفاق منذ أشهر قليلة، وبقي هذا الاكتشاف مُتداولاً به على النطاق الداخلي ومع الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، قبل بدء الاستثمار فيه في الأيام القليلة الماضية ليكون عنوان المواجهة المقبلة التي أطلقتها اسرائيل بعد أقل من شهرين ونصف على رواية «مصانع الأسلحة الإيرانية الصاروخية» في جوار مطار بيروت الدولي ومناطق أخرى من لبنان، وعدم القدرة على تسويقها دولياً وإقليمياً.
وعليه، لا بد من التعاطي مع العنوان الجديد الذي اختارته اسرائيل في عملية «درع الشمال» لتوتير الجو على الحدود اللبنانية الجنوبية بالكثير من التعقّل.
فالرواية مَمجوجة وليست جديدة على ما اعتبرته مراجع دبلوماسية غربية في بيروت، والدلائل على ذلك كثيرة. فالسفيرة الأميركية التي زارت بعبدا أمس الأول، في زيارة غير عادية - سواء جاءت بناء لرغبتها او انها استدعيت الى القصر في أعقاب الحفريات الإسرائيلية على الحدود - أنهَت بهذه الزيارة القطيعة مع قصر بعبدا ووزارة الخارجية، والتي امتدّت منذ منتصف الصيف الماضي. وهي لم تتبنّ التحذير الأميركي للبنان من الترددات المترتبة على اكتشاف الأنفاق، بل دعَت الى الإسراع في تشكيل الحكومة اللبنانية.
وبعيداً من كل هذه المعطيات، أكّد المراقبون العسكريون اللبنانيون والمراقبون الأجانب انّ التقليل من أهمية الخطوة الإسرائيلية الجديدة هو خَطأ كبير وتسخيفها خطأ أكبر. فرئيس الحكومة الإسرائيلية يبحث عن مواجهات خارجية لِلَملمة الوضع الحكومي الداخلي، وتأجيل الانتخابات الاستثنائية على قدَر ما يستطيع، وما عليه سوى فَتح ملف الخيارات الخارجية. فبالأمس ضربَ في سوريا، وقد يُقدِم على خطوة مماثلة في لبنان، لكنها مُستبعَدة في الوقت الراهن ما لم يقدّم «حزب الله» ذريعة إضافية له، علماً أنّ لبنان الرسمي سَعى في الساعات الماضية لمَنع ارتكاب أي خطأ.