بهذه الخلاصة يُجمِل الرئيس نبيه بري المشهد الداخلي، ليختمها بتحذير متجدّد:» الوضع لم يعد يحتمل، هناك محظورات تحصل، تبعث حتى على القرف، ولا قدرة للبلد على احتمالها او التعايش معها او مع ما ترخيه من سلبيات على مجمل الوضع، صار من الضروري والملح ان ندرك انّ هناك ضرورات اكبر مما نتصوّر واكثر من ملحة، توجب المسارعة الى إنقاذ الوضع وتفادي الأزمة».
كلام بري هذا يأتي بعد سلسلة الفصول التوتيرية التي توالت على المسرح الداخلي، وقد يتوالى غيرها، إن بقي الحال المعطّل على ما هو عليه من دون علاج:
- بدءاً بالمتاريس التي ما زالت منصوبة منذ ما يزيد عن ستة أشهر في جبهة تأليف الحكومة وتتقاصف، من دون ضوابط، بالاتهامات والارتكابات وبكلام وضرب فوق الزنار وتحت الزنار.
- مروراً بالمحاولات المفتعلة لإدخال البلد في مزيد من الارباك، ودخولاً من الباب الحسّاس عبر محاولة التلاعب بأرقام سلسلة الرتب والرواتب وإثارة مخاوف الموظفين والمستفيدين منها.
بالتوازي مع محاولة افتعال أزمة حول رواتب المتقاعدين، وكلام عن اختناق اقتصادي ومالي. وهو امر تمّ تجاوزه بإجراءات سريعة، كان آخرها بالأمس، الاجتماع الذي وصفه بري بالمريح جداً بين وزير المال وحاكم مصرف لبنان، الذي اكّد التعاون بينهما في رسم خريطة المعالجة الصحيحة لكل الامور، ونتائج هذا الاجتماع تدفعني الى القول بأنني اكثر اطمئناناً على الوضع النقدي، وبالتالي لا مبرر للقلق والخوف. قد تكون هناك أعباء اضافية انما خارج إطار التقديرات التي تحدّدت للسلسلة عند إقرارها ومردّها الى توظيفات لأكثر من 2500 موظف في بعض الأسلاك.
- وصولاً الى ما جرى في الجاهلية، فلم يكن مبرراً حصوله من الاساس، لا في الشكل ولا في المضمون، ولا في الأداء، ولا في ما وصل اليه من تفاقم وتوتر وأدى الى سقوط ضحية وحصول اخطاء.
كان واضحاً هنا انّ الرئيس بري لم يقارب ما جرى في الجاهلية الّا من زاوية تقديم التعازي بالضحية التي سقطت. فأفضل الطرق في مثل هذه الحالات هو المعالجة بهدوء وصمت، وفي النهاية يقول: «مررنا بقطوع، آمل ان يكون قد عولج كما يجب وتمّ احتواءه وتجاوزه».
- وانتهاءً بالمُستجد الاسرائيلي على الحدود، عبر محاولة اسرائيل ادخال لبنان في نفق كفركلا. والذي ادّى الى استنفار اركان الدولة، واتصل رئيس الجمهورية بالرئيس بري، وكذلك فعلت قيادة الجيش، والهدف الاساس كيفية التعامل مع هذا التطور الاسرائيلي، وكذلك اتصال من السفيرة الاميركية في لبنان اليزابيت ريتشارد. وكان واضحاً انّ السفيرة لم تخرج عن سياق موقف الادارة الاميركية المتبني بالكامل للموقف الاسرائيلي.
خلاصة الموقف اللبناني كما اشار اليه بري «انّ الرواية الاسرائيلية حول وجود نفق في كفركلا، مشكوك فيها، ولبنان يطلب تزويده بالاحداثيات التي تحدّد موقع هذا النفق، وصحة المزاعم الاسرائيلية حول وجوده. وفي اي حال، اذا اراد الاسرائيلي ان يحفر داخل الاراضي التي يحتلها، فليفعل هناك ما يريد وليحفر قدر ما يشاء، اما اذا اراد التمدّد بالحفر نحو الارض اللبنانية فهناك كلام آخر».
لم يُشر بري الى تلقي لبنان الاحداثيات التي طلبها، وهو امر يدفع الى السؤال: هل هذا النفق موجود اصلاً؟ ام انّه يشبه «صواريخ المطار» التي اعلن نتنياهو عن وجودها قبل فترة غير بعيدة؟
في اي حال، يشير بري الى انّ الاجتماع الثلاثي سيُعقد اليوم في الناقورة بين اللجنة الثلاثية اللبنانية والاسرائيلية و»اليونيفيل»، واذا اثير هذا الموضوع في هذا الاجتماع، فموقفنا واضح وسيعبّر عنه ممثل لبنان في اللجنة.
يُدرك بري انّ الإثارة الاسرائيلية لهذه المسألة تستوجب التعمّق فيها، وقراءة ما تستبطنه من غايات واهداف، وفي كل الحالات، فمثل هذا الأمر يدفع حتماً الى رفع جهوزية الداخل اللبناني وتحصينه في وجه اية احتمالات.
وفي كل الحالات يجب ان نحتاط دائماً من الاسرائيلي، ونتنياهو مأزوم في الداخل ومتّهم بالفساد هو وعائلته، وقد يقوم بأي عمل للهروب من أزمته الداخلية الى الخارج.
امام هذه المشاهد، ينبري السؤال التالي: هل يستطيع لبنان ان يكمل في هذا الجو المعقّد؟
الجواب البديهي، انّ التحصين الداخلي هو المطلوب اولاً واخيراً، ولعلّ المدماك الاساس فيه هو بناء الهيكل الحكومي، ولكن، كيف طالما انّ دروب التأليف مُقفلة جميعها؟
سبق لرئيس المجلس ان قدّم ما اعتبره الطرح الأسلم للتعجيل بتشكيل الحكومة أساسها «لا غالب ولا مغلوب»، وهويتها حكومة وحدة وطنية، تضمّ الجميع من دون استثناء وتشركهم في ورشة إنقاذ البلد.
وجوهر الطرح هو العودة إلى اعتماد ذات التوزيعة الوزارية التي كانت معتمدة في الحكومة السابقة. يومها اراد بري من خلال هذا الطرح ان يعطي إشارة الى كل الآخرين بأنّه أول المتنازلين في خدمة إطلاق عجلة الحكومة سريعاً، والتنازل هنا ليس انتقاصاً من حق، بل هو تنازل لمصلحة البلد اولاً واخيراً، ووزير بالزايد ووزير بالناقص لا يقدّم ولا يؤخّر.
علماً انّه كان في مقدور بري أن يطالب بحصة وزارية أكبر لا تقل عن خمسة وزراء لكتلته النيابية وحدها، باعتبارها ثالث أكبر كتلة نيابية، متنوعة ويسمّيها وطنية بامتياز كونها تضمّ في صفوفها نواباً من مختلف الطوائف.
بهذا الطرح صفّق بري وحيداً، فيما حلبة التأليف غرقت منذ ذلك الحين باشتباكات متنوعة واشعلت «المعايير العشوائية» حرباً ضروساً على التمثيل، تصارعت فيها إرادات التحجيم والاستئثار، كان من نتيجتها تفسيخ العلاقات بين مختلف القوى السياسية.
وما زال الصراع مستمراً وباحتدام حتى الآن، مضافاً اليه عقدة تمثيل سنّة 8 آذار، التي تحوّلت الى «ام العِقد»، بالنظر الى التصلّب حيالها بين الرئيس سعد الحريري ورفضه القاطع تمثيل اي من النواب الستة، وبين «اللقاء التشاوري» ومن خلفه «حزب الله»، والذي تدرّج إصراره على التمثيل الى المطالبة بوزير مع حقيبة.
حاول الوزير جبران باسيل وبدفع من رئيس الجمهورية إيجاد حل ما، طرح افكاراً، مقايضات من بين هذا وذاك، العودة الى حكومة 32 ( اعتبر بري انّ هذا الطرح قد يكون قابلًا للنقاش الجدّي حول السير به، ولمزيد من الدفع ايّد بري إعطاء الحريري الوزيرين العلوي والاقلوي)، ولكن كل هذه الطروحات لم تمرّ ولم تقدّم ما يمكّن الحكومة المعطلة من العبور. المأخذ على هذه الافكار انّها توخت الحلّ من جانب معيّن، فيما تجاهلت موقعاً آخر اساسياً، في مقدوره ان يبادر الى حل فتنتهي المشكلة فوراً، بحسب اعتقاد كثيرين.
ومعلوم هنا، انّ بري حدّد لباسيل المكمن الأوحد لحلّ أزمة التأليف، وهو يقع ضمن حصة «التيار الوطني الحر» والحصة الرئاسية، حيث في الامكان التخلي عن وزير لصالح اطلاق عجلة الحكومة. الا انّ حركة باسيل سارت في مكان آخر، دون ان تلامس حصّة التيار ولا حصّة رئيس الجمهورية الذي عاد واكّد رفضه المس بها.
لو تمّ السير باقتراح بري، بداية مشوار التأليف قبل ستة اشهر، بابقاء القديم على قدمه، لما كان الملف الحكومي انحدر الى الازمة التي بلغها، ربما العودة الى العمل بهذا الاقتراح قد تشكل الطريق الأقصر الى تشكيل الحكومة، ولكن بعدما تمّ «تجريب» كل المخارج والافكار وفشلت، لا يبقى سوى مخرج وحيد موجود بيد رئيس الجمهورية.
ولبري هنا كلام واضح «هناك حل وحيد، ومخرج وحيد لا يوجد غيره، وابلغته بشكل مباشر للوزير جبران باسيل، وما زلت على موقفي ولا ارى سوى هذا الحل، وما زلت آمل في أن يتم السير به».