لندقق في الأمر قليلاً... ليست الأزمة في لبنان في قانون الانتخاب الذي أفضى إلى النتائج الراهنة؛ الأزمة تكمن في المعطيات السياسية الحقيقية داخل المجموعات اللبنانية، والتي جاء قانون الانتخاب النسبي لينقلها إلى داخل المؤسسات، وهي معطيات لا تصب في صالح المشروع السيادي المناوئ لإيران ولسوريا.
أبرز هذه النتائج، الاختراق السُنّي بنواب يدورون بغالبيتهم في فلك «حزب الله»، وبأصوات سنية لا غبار عليها، ما عدا نائبين ولدا في كنف الصوت الانتخابي الشيعي المباشر. واختراق ثانٍ درزي في الشوف، مثلته حالة الوزير السابق وئام وهاب، الذي - رغم رسوبه في الانتخابات - ثبت حالة درزية في عقر دار الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، في لحظة درزية معقدة جداً تتسم بالصفة الانتقالية في لبنان من جنبلاط الأب إلى نجله تيمور، كما تتسم بتعقيدات المشهد الدرزي - السوري، والدرزي - الإسرائيلي في داخل إسرائيل وفي الجولان.
أما مسيحياً؛ فكان وصول الجنرال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية مع ما تعنيه الرئاسة من موقع نفوذ ومنصة علاقات وقدرة على تشبيك المصالح، العامل الأبرز في تحجيم العصب السيادي المسيحي. ليس أدل على ذلك من عدم قدرة الدكتور سمير جعجع على تحسين تمثيل «القوات اللبنانية» حكومياً رغم مضاعفته عدد كتلته النيابية بالمقارنة مع عام 2009. زد على ذلك نجاح «حزب الله» في الإمساك التام بكامل النواب الشيعة في البرلمان بالتحالف مع حركة «أمل» ورئيسها نبيه بري.
قانون الانتخاب لم يفعل إلا ترجمة هذا التوازن بين المجموعات اللبنانية فيما بينها وفي داخل كل منها على حدة، وهو ما لم يكن ممكناً تغييبه في حال اعتماد قانون آخر، لأن القانون الآخر كان سيفضي إلى نتائج غير واقعية عن الصفة التمثيلية للمشروع السيادي اللبناني ولخصومه.
من الممكن بالطبع المحاججة بأن سلاح «حزب الله» والارتباط الحديدي للطائفة الشيعية بحزبها الثنائي الحاكم، لا يعكسان الواقع التعددي داخل الطائفة الشيعية، ولكنها محاججة أقرب إلى التمني من الواقع. فالتعدد، وهو موجود، قاصر عن التحول إلى حالة سياسية ذات مشروع. فبعكس العراق وتحولاته الشيعية العميقة، نجح «حزب الله» في لبنان في رفع مستوى استنفار الهوية السياسية الشيعية، وربط مصالحها ووجودها واستمراريتها بمصالحه ووجوده واستمراريته، بشكل غير مسبوق؛ لا في تاريخ الطائفة، ولا في تاريخ الطوائف اللبنانية الأخرى. والأرجح أنه سيظل قابضاً على سدة النجاح ما لم تُمتحن هذه المصالح وتأثير «حزب الله» السلبي عليها، ليس عبر العقوبات المباشرة على الحزب وكوادره؛ بل عبر استهداف التجسير الحاصل بين الحزب وبيئته الأعم والأوسع والتي تضم من كل الطوائف رجال أعمال وتجاراً ومصرفيين وموظفين حكوميين ورؤساء بلديات وفنانين ورياضيين... وغيرهم.
قانون الانتخاب بالنتائج التي أفضى إليها ألقى الضوء على هذه المرتكزات الأربعة للاختلال الوطني الحاصل في لبنان لصالح فريق إيران.
1- إقفال «حزب الله» لطائفته.
2- الاختراق المسيحي الاستراتيجي بإيصال عون إلى سدة الرئاسة، وهو يختلف عن الرئيس السابق إميل لحود بكونه رافعة لحالة شعبية مسيحية عريضة وأكيدة.
3- ترجم حالة التأييد الكلاسيكية السنية له في مجلس النواب.
4- نجح في الرهان على صناعة حالة درزية اسمها وئام وهاب.
أضف إلى ذلك الاختلال الأوسع على مستوى الإقليم، لا سيما في سوريا؛ حيث يتيح ميزان القوى لإيران وحلفائها هامشاً أكبر للمناورة بالمقارنة مع ما هو متاح للفريق السيادي اللبناني، بحيث إن نتائج الحرب السورية تعد خسارة له وكسباً للإيرانيين وحلفائهم، وهو واقع لا يلغيه أن اليد العليا في سوريا لروسيا وليست لإيران.
بإزاء هذين الاختلالين على المستويين الوطني والإقليمي، في ميزان القوى، يبرز مساران ممكنان لإدارة المرحلة المقبلة؛ الأول المقاومة ولو الضعيفة من داخل أطر الشراكة السياسية؛ أي، بكلام آخر، من داخل حكومة يشارك فيها «حزب الله»، أو الخروج من هذه الشراكة المختلة إلى إطار المعارضة السياسية وإعادة تكوين مشروع وطني سيادي مضاد لإيران وللشهوات السورية، ولو الوهمية، لإعادة إحياء بعض من الوصاية الأسدية على البلد.
الوقائع السياسية، وتشابك المصالح المعقدة في لبنان، يشيران إلى أرجحية المسار الأول؛ أي عدم إهداء «حزب الله» تسلم زمام القيادة الكاملة للبلد، عبر تجاوز ضجيج الاشتباكات الموضعية هنا وهناك، والوصول إلى تسوية الحد الممكن لاستيلاد الحكومة.
بمعنى آخر تبدو خيارات اللبنانيين بين أن يتحولوا إلى غزة مرة واحدة بتسلم «حزب الله» الحكم، أو أن يتدرجوا باتجاه مصير غزة، مع كل انكشاف للشراكة المختلة لصالح «حزب الله».
في هذا السياق الأخير، كان لافتاً ما أدلى به رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق عاموس يادلين، وهو يرأس اليوم «معهد دراسات الأمن القومي» في جامعة تل أبيب، من أن إيران غيّرت تكتيكاتها في المنطقة، وأنها بفعل الضغوط الروسية عليها في سوريا تتجه لنقل المعركة مع إسرائيل إلى لبنان، وهذا ما لا تحول دونه لا الشراكة مع «حزب الله» ولا مواجهته من مقاعد المعارضة.