صحيح أنّ موازين القوى تغيّـرت عن عامَي 2005 و2009 بفضل قانون الإنتخاب الذي إعتمد «النسبيّة الملبننة»، التـي لا تشبه أيّ نسبيّة فـي العالـم، والتـي لـم تستقطب سوى 49% من الناخبـيـن، إلاّ أنّ خريطة الكتل النيابية بقيت على حالـها وبزعمائـها التقليدييـن، وإن تغيّـرت أحجامـهم وأوزانـهم.
لقد حذّرنا طوال خـمس سنوات من إعتـماد قانون إنتخاب لا يشبه مـجتمعنا الـمُقسَّم والـمُشرذَم والمُمذهَب، ولا يتناسب مع تطوّر شعبنا وثقافته وتعدّديته وديـموغرافيته وأحزابه وطوائفيته.
ومن دون الأخذ بعيـن الإعتبار سطوة السلاح وهيبته. إلاّ أنّ كل تحذيراتنا ذهبت أدراج الرياح، واسـتسلمت غالبية الكتل لقوى الأمر الواقع، ظنّاً منها أنـها ستعوّض خسائرها باستنفار شعوبـها وإثارة عصبيّاتـهم الـمذهبيّة، من دون أيّ دراسة أو رؤية أو تـخطيط، وجرت الـتحالفات الـمتناقضة من دون مبدأ أو هدف.
لقد إحتسبت هذه الأحزاب عدد النواب الذي سيـزداد لديـها على الطريقة العشائرية، ومن دون أيّ مقياس علميّ، ولـم تـحتسب العدد الذي سيـزداد لدى الأفرقاء الآخريـن، وكيف ستكون النتيجة النـهائية فـي ميـزان الإصطفافات الإقليمية.
إنّ الـخطأ الذي إرتكبه «تيار الـمستقبل» وفريق 14 آذار فـي عدم تقدير النتائج التـي ستتمـخّض عنها الإنتخابات، أوصلهم إلى الـمأزق الذي تعانـي منه عقدة تشكيل الـحكومة. فالـخسارة التـي مُنـيَ بـها «الـمستقبل» والإنتصار الذي حقّقه «حزب الله» وحلفاؤه، لـم يُتـرجَـما حكومياً على صعيد رئاسة الـحكومة، ليس بسبب «سواد عيون» الرئيس سعد الـحريري ولا حبّاً بالـخطّ السعودي، بل بسبب الـحاجة الـماسّة لوجوده على رأس الـحكومة، كونه يشكّل ضمانة عربية ودولية للبنان. فـمؤتـمر «سيدر» ومَن وراءه، والوضع الإقتصادي الـمهـتـرئ، والعقوبات الأميـركية على «حزب الله»، وقرب صدور أحكام الـمحكمة الدولية حتـّمت تسمية الـحريري وتكليفه تشكيل الـحكومة، ليكون متـراساً فـي وجه التـحدّيات والإستـحقاقات الساخنة.
ولكن، على رغـم التضحيات الكبـرى التـي قدّمها الـحريري خوفاً على «الصبـي»، إن كان بقبوله القانون «النسبـيّ»، أو بقبوله العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، فإنّ «حزب الله» وحلفاءه يريدونه رئيساً ضعيفاً «مقصقص» الـجوانح، لا «يـمون» على ثلث أعضاء حكومته، وما العقدة السنّية الـمُستـحدَثة إلاّ مرآة عن واقع الـحال.
فـي مـجتمعنا، هناك دوماً مَن يـحاول تفسيـر الأمور وفق ما يريد، لأنّ فائض القوّة سيطر على كل ما عداه، وفرض سلوكاً مهيمناً ومهيناً لباقـي الأفرقاء، من دون رادع.
إنّ نواب اللقاء التشاوري ينتمون الى كتل سياسية مـختلفة ومـمثَّلة فـي الـحكومة، ولا يــجمعهم إلاّ الـخطّ الـمناهض لرئيس الـحكومة. إنّ هؤلاء السادة النواب، وحفاظاً على ما تبقّى من أصول ديـموقراطية، يـمكنهم، مع زملائـهم فـي الـحزب «السوري القومـي» وغيـرهم من النواب الذيـن لـن يدخلوا جنّة الـحكم حـمْل لواء شرف الـمعارضة البنّاءة من خارج الـحكومة.
أمام ملايـيـن الـمشاهديـن، قال فخامة رئيس الـجمهورية كلمته عن اللقاء التشاوري، وأعلن صراحةً بأنّ هؤلاء لا يشكّلون كتلة نيابية مستقلّـة كي يتـمثّلوا، واعتبـر أنّ الإصرار على توزير أحدهم «هو من «التكتيكات» السياسية التـي تضرب لنا الإستـراتيجيات السياسية وتفتح ثغرة لضرب الوحدة الوطنية»، كما دعا إلى «تقوية رئيس الـحكومة وليس إضعافه».
من هذه النقطة بالذات، يـجب أن تنطلق وساطة الوزير جبـران باسيل، وليس من أيّ مكان آخر. فالتعاطف والتضامن مع مطلب النواب الستّة، كما صرّح أخيـراً باسيل، لا يسهّلان الـحلّ، والإستدارة «الباسيلية» الـمُفاجِئة ليست فـي مـحلّها، ورمي الكرة فـي مرمى الـحريري يزيد الـمشكلة تعقيداً، والـمخرج اللائق لا يكون بإضعاف موقِفَي رئيس الـجمهورية ورئيس الـحكومة.
إذا صدّقنا أنّ إيران لا تتدخّل وسوريا مشغولة بـمشاكلها، فـما هي مصلحة «حزب الله» فـي كسْر كلمة عون وهيبة الحريري؟ وما هي منفعة «الـحزب» فـي الذهاب إلى حدّ التعطيل؟ هل إنّ توزير نائب سنيّ حليف يستـحقّ تكسيـر الرؤوس وإيقاظ الفتنة السنّية - الشيعية وأخْذ البلد إلى الإنــهيار؟
يقول الإمام علي بن أبـي طالب رضي الله عنه:
«بكثـرة التواضع يُستدلّ على تكامل الشّرف، بكثـرة التكبّـر يكون التّلف». و«إنك إن تواضعت رفعك الله، وإنك إن تكبّـرت وضعك الله».
عند كل منعطف خطيـر، وبعد كل نزاع، قدرنا أن نستعيد الـمعادلة الذهبـيّـة التـي أطلقها الرئيس صائب سلام بعد ثورة عام 1958، «لا غالب ولا مغلوب». لأنّ إنتصار فريق يعنـي إنكسار فريق آخر، وهذا مـمنوع فـي بلد 18 طائفة، خوفاً على الكيان وحفاظاً على الوحدة.
من أجل هذه القيـَم والثوابت، نناشد نواب اللقاء التشاوري، كونـهم نواب الأمّة قبل أن يكونوا نواب السنّة، أن يبادروا ويسحبوا فتيل الفتنة، ويـُجنّبوا البلد الخضّات، ويُعلنوا بـملء إرادتـهم التخلّي عن مطلبهم هذه الـمرة، على وعد بتـحقيقه فـي مرحلة أخرى.
إنّ الأقوياء هم الذيـن يقدّمون التضحية ثـمناً لـما هو أغلى وأعظم. فـهل هناك أغلى وأعظم من الوطن؟