معاناة الخلل والإحباط في الشارع السنّي التي طرحنا بعض جوانبها الأسابيع الماضية، ظهرت وقائعها على الأرض الأسبوع الساخن، عند أول «نكزة» استفزاز تطاول أصحابها على رموز وقيادات أهل الجماعة.
ما حدث في بيروت والناعمة وصولاً إلى البقاع من قطع طرقات وإشعال دواليب، جسّد حالة الغضب والغليان التي عمّت جمهور الحريرية السياسية إثر الكلام المسيء والخارج عن أدنى مستويات اللياقات السياسية، الذي أطلقه وئام وهاب ضد الرئيس رفيق الحريري وعائلته. وبدا من حجم الحركة الاحتجاجية وانتشارها السريع، وكأن الشباب كانوا بانتظار الفرصة المناسبة لتفجير تراكمات الاحتقان المختزن منذ فترة ليست قصيرة، نتيجة سياسات المسايرة والقبول بما يتعارض مع مصالح الجماعة، تحت شعار الحفاظ على الاستقرار والأمن، وإنقاذ البلد من الأزمات التي يتخبّط فيها.
وثمّة مَن يعتقد بأن ردّة فعل الشارع السنّي هي بداية «صحوة» للاعتراض وللتصدي ورفع الصوت عالياً، وعدم الاستمرار في سياسة السكوت ومراعاة الخواطر، والتصرّف وكأننا «أم الصبي»، ومسؤولية البلد تقع علينا قبل غيرنا! لقد أيقنت الجماعة أن كل التساهلات والتنازلات السابقة، القديم منها والحديث، وما رافقها من عض على الجرح لم تنفع في تعزيز التفاهمات الداخلية، وإعادة التوازن إلى المعادلة الوطنية. بل لعل العكس هو الذي حصل: فكلما قدّمت قيادة الجماعة تنازلاً يحسبه الطرف الآخر مكسباً له، ويعتبره ضعفاً لصاحب التنازل، ويطالبونه بالمزيد من التنازلات، عوض ملاقاته في منتصف الطريق!
وفي الأزمة الحكومية الراهنة لم يعد لدى الحريري والجماعة ما يخافون على خسارته. فهم لم يبخلوا بالمبادرات والتنازلات لدرجة إنهم يشعرون أن ظهرهم وصل إلى الحائط، ولم يعد ثمة مجال لأي تراجع جديد.
وفي إطار الأزمة الحكومية أيضاً، لا بد من الملاحظة بأن صلابة موقف الحريري الراهنة مكّنته من استعادة معظم ما كان قد خسره من شعبيته، ليس في الانتخابات النيابية الأخيرة وحسب، بل وأيضاً منذ التسوية الرئاسية التي أنقذت الرئاسة الأولى من الفراغ المدمر. وهو اليوم أقوى مما كان عليه عشية الانتخابات، رغم أن كتلته كانت الأكبر في مجلس النواب السابق، لأن دائرة الالتفاف حوله تتوسّع يوماً بعد يوم، وتستوعب حتى الذين كانوا يُعتبرون محتجين أو متمردين، من أبناء الحريرية السياسية.
القراءة الأولية لأحداث الأسبوع الساخن المنصرم تقودنا إلى استنتاجات على جانب كبير من الأهمية، نكتفي بإيراد بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
١ - لم يعد التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور يُخيف الجماعة، على اعتبار أن أي اهتزاز أمني أضراره ستصيب الجميع، وأي خراب، لا سمح الله، يحدث في البلد ستصيب شظاياه وتداعياته كل النسيج اللبناني، ولن تنحصر خسائره بطائفة معينة أو منطقة محددة.
٢ - ثمة قناعة جديدة تنتشر في أوساط الجماعة، مفادها أن البلد ليس لنا وحدنا، بل هو وطن لكل اللبنانيين، بأطيافهم وأحزابهم المختلفة، وبالتالي فإن الحفاظ عليه وعلى مقومات العيش الواحد بين أبنائه، وعلى أمنه واستقراره، ليس من مسؤولية أهل الجماعة وحدهم، بقدر ما هي مسؤولية وطنية شاملة، تتحمّلها كل المكوّنات اللبنانية الأخرى، وخاصة أولئك الذين يشعرون بفائض القوة، وحلفائهم الذين يتمردون على سلطة الدولة ويتحدّون أجهزتها الشرعية، كلما «دق الكوز بالجرة»!
٣ - معاناة الغضب والإحباط تكبر يوماً بعد يوم في الشارع السنّي، مع تفاقم الشعور بالتهميش والإهمال من قبل الدولة: البطالة متفشية في أوساط الشباب، دخول طلابهم إلى المدارس والجامعات دونه عقبات مالية ولوجستية، منافذ التوظيف في الإدارات العامة شبه مقفلة في وجوههم، مؤسساتهم التربوية والاجتماعية والصحية في تراجع مستمر، معظم بلدياتهم متعثرة في أعمالها بالمقارنة مع إنجازات البلديات المجاورة، ومدنهم ومناطقهم الأخرى أصبحت الأكثر فقراً في البلد، وطرابلس مثلاً صنفتها الدراسات الدولية أفقر مدينة على ساحل المتوسط !
٤ - تهديدات السلاح والحرب والمواجهات النارية، لم تعد تردعهم عن خوض المعارك السياسية حتى النهاية، لأن التجارب أثبتت أن السقف إذا سقط، لا سمح الله، سيقع على رؤوس الجميع، ولا يتحملون مسؤوليته وحدهم، وبالتالي فليتحمل البادئ مسؤولية ما ستؤول إليه عواقب مثل هذه المهاترات والمغامرات!
هل ثمة تغييرات جوهرية في طريقة تعاطي الجماعة مع الملفات الداخلية؟
السؤال يستحق الوقوف عنده ملياً، قبل الإسراع في الإجابة عليه!
تطورات الأسبوع الساخن اقتضت هذه المعالجة العاجلة، تاركين للأسبوع المقبل العودة للحديث عن «دور السعودية ومصر في مساندة حركة الاستنهاض لأهل الجماعة».
فإلى الاثنين المقبل.