ثمة قدر من الجرأة في إختيار مسألة الهوية وتحدياتها في دول الخليج العربية وفي إثارة قضية العلاقات الخليجية الاميركية وإشكالياتها في منتدى الخليج الخامس الذي نظمه المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات في الدوحة على مدى اليومين الماضيين. فما كان يقع في باب التحريم، صار يندرج في باب التهديد العلني الذي يتعامل معه الخليجيون عامة والقطريون ربما بشكل خاص، بحذر شديد.
في الظاهر قد لا يبدو أن هناك صلة بين القضيتين اللتين شرع لهما المركز العربي أبوابه ، وفتح النقاش على مصراعيه بين حشد من الباحثين الخليجيين والاجانب ، الاميركيين تحديداً. لكن التزامن بين تنامي العصبيات الوطنية في مختلف بلدان الخليج العربي وبين إهتزاز العلاقات مع الحليف الاميركي القديم لم يكن وليد الصدفة. لا يعني هذا ان القطريين او الكويتيين او العمانيين او السعوديين.. هم في طريقهم الى شطب البعد"الخليجي"من هويتهم، او هم في سبيلهم الى فك الحلف مع أميركا التي لم تعد تحتاج الى نفطهم وغازهم وباتت تنافسهم على كسب أسواقه العالمية.
ثمة ما هو مفصلي في الحقبة الخليجية الراهنة، تعيد الى الاذهان مرحلة الاستقلال عن بريطانيا في سبعينات القرن الماضي، وتفرض على الباحثين العرب والاميركيين، في أوراقهم المقدمة الى المنتدى، إستعادة محطات العلاقات الاميركية الخليجية، التي لا يبدو انها توفر الاطمئنان التام، لأي من دول مجلس التعاون الست، برغم إختلاف درجات قربها من إدارة الرئيس دونالد ترامب. لا أحد من المسؤولين الخليجيين يثق بذلك الرجل، الذي يستخدم لغة تكاد تكون نابية في مخاطبة بعضهم، والذي يقول لهم في الاجتماعات المغلقة عكس ما يقوله في العلن.. والذي يكذب على الجميع بمن فيهم كبار وزرائه ومساعديه.
الهوية الخليجية ما زالت قائمة، لكن وظيفتها تغيرت الى حد بعيد. هي ظهرت بفعل الحاجة الى مواجهة تحدي الثورة الايرانية والغطرسة العراقية. ما زال أكثر من ثلثي مواطني دول مجلس التعاون يعرفون أنفسهم على أنهم خليجيون. لكن أكثر من هذه النسبة تعتبر أن المجلس لم يعد قائماً بالفعل، ولم تعد واشنطن تحديداً تتعامل معه بجدية، برغم مشروعها الخاص ب"الناتو العربي" الذي يفترض أن يضم الدول الست مع مصر والاردن لمواجهة الخطر الايراني المفترض، او بعبارة أخرى المبالغ به.
ثمة من يزعم ان إدارة ترامب هي التي قوضت أسس مجلس التعاون ووظيفته عندما حرضت وساهمت في فرض الحصار على قطر..لأنه ليس لدى تلك الادارة حتى الآن عقيدة خاصة بالخليج على غرار عقيدة نيكسون أو عقيدة كارتر الشهيرة، او حتى عقيدة أوباما ، بغض النظر عن مستوى الالتزام بتلك العقائد، وعن مستوى نجاحها من وجهة نظر الاميركيين..الذين يوحون اليوم أنهم ورثوا الخليج من البريطانيين على مضض، وبعد تردد أمتد لعقد السبعينات بالكامل، الذي شهد في نهايته الثورة الخمينية والحملة العسكرية الاميركية الاولى من نوعها للدفاع عن دول مجلس التعاون.
إضطراب العلاقة الخليجية مع اميركا، ظاهر وملموس منذ عهد أوباما الذي إختار علناً الايرانيين على حساب الخليجيين وبما يناهض مصالحهم الوطنية، الى عهد ترامب الذي يمكن حسب تقدير أحد المشاركين الاميركيين في المنتدى، أن يجر دول الخليج العربية وأميركا الى حرب جديدة مع إيران،أخطر من الحرب على العراق، وأكثر كلفة على الاجتماع والامن والاقتصاد الخليجي..وهو سيناريو يوم القيامة الذي لا يمكن إستبعاده تماما، بوجود رئيس أميركي يستحيل التنبوء بتصرفاته.
لم يتوقف الباحثون العرب خاصة عند الهوة السياسية العميقة، التي باتت تفصل بين دول مجلس التعاون، والتي حُفرت للمرة الاولى عندما إختارت قطر إحتضان الربيع العربي، وعندما ردت السعودية والامارات برعاية العسكر العربي، ربما بدافع الحرص على ما تبقى من هوية "خليجية" مشتركة، لم يبق منها من مشتركٍ سوى فقدان الثقة بالحليف الاكبر ، أميركا، التي كانت مصدر الازمة ، وصارت مسبب إستمرارها، لفترة أطول بكثير مما كان يتوقع.