بدأت الأصوات التي تطالب بإلغاء سلسلة الرتب والرواتب ترتفع اكثر فأكثر. وهي نفسها الاصوات التي ارتفعت من قبل للاعتراض على إقرار السلسلة.
وفي المقابل، عاد «أبطال» السلسلة الى الواجهة، للدفاع عن مكتسبات وحقوق حَصّلوها بعد نضال سنوات. وهكذا، استعاد الصراع طابعه الطبقي، وكأنّ المنازلة هي بين أرباب العمل والعمال، في حين انها ليست كذلك.
وحدها السلطة أدّت دور المتفرج لفترة، ثم فاجأت الجميع بإقرار السلسلة، وفاجأتهم أكثر بجهلها للكلفة الحقيقية لهذا القانون، ووصل الفارق بين تقديرات كلفة الدرجات (800 مليون دولار)، والكلفة الحقيقية (حوالى مليار و800 مليون دولار)، الى مليار و200 مليار دولار حتى الآن، والحبل على الجرّار...
ما نشهده اليوم يشبه ما عانيناه بالأمس: أطراف تطالب بإلغاء السلسلة وتبسّط هذا المطلب وكأنه أمر عادي يمكن ان يمر بسهولة وينقذ الدولة من الافلاس، وهو ليس كذلك. أطراف اخرى تعلن تمسّكها بالسلسلة وتُسَخّف حجم الكلفة التي تسبّبت بها، مع انها ليست بسيطة وساهمت بلا شك في تسريع الوصول الى مرحلة الاحتضار التي يمر بها البلد اليوم.
وتبرز المشكلة في حرب المزايدات التي ما ان تبدأ حتى لا تنتهي. والحسابات التي يجريها كل طرف سياسي قبل ان يتخذ موقفاً من الطرح الجديد بتأييد إلغاء السلسلة او رفضه، ترتكز على سؤالين:
1 - أيّ موقف يحقق مكسباً سياسياً أفضل؟
2 - أيّ موقف يمكن أن يضرّ أكثر بالخصوم السياسيين؟
وبناء على الأجوبة عن هذين السؤالين، يتمّ تحديد المواقف والخيارات. هذه القاعدة هي نفسها التي حكمت مواقف كل الاطراف في السابق في ملف إقرار السلسلة.
الواقعية تفرض اليوم أن يغيّر الجميع قواعد اللعبة. والموضوع صار أبعد من كسب أصوات انتخابية، او إحراج طرف سياسي، أو النيل من سمعة العهد.
الخطر الذي يُحدق بالبلد حقيقي ووشيك، ومقاربة المعالجات لا تتم بالأسلوب نفسه الذي تمّت فيه مقاربة السلسلة قبل إقرارها. إذ ليس كل من يطالب بالإلغاء متآمر، وليس كل من يتصدّى له جاهل ومغامر.
الأزمة اليوم في مكان آخر. الدولة لم تعد قادرة على تمويل عجزها السنوي عبر الاقتراض. وهي تحتاج لاقتراض بين 7 و8 مليارات دولار للعام 2019، اذا لم تتخذ إجراءات لتغيير النهج القائم. كلفة اقتراض هذا المبلغ (الفوائد) التي كانت تتراوح في السابق بين 450 و550 مليون دولار، سترتفع الى حوالى 900 مليون دولار، وربما اكثر.
وبالتالي، بات الوضع يحتاج حلولاً طارئة وموجِعة يجب ان يجري التفاهم عليها قبل وقوع الكارثة. أما القول انّ إلغاء السلسلة هو الحل، فهذا ادّعاء يفتقد الى المنطق، لأنّ خطوة من هذا النوع يمكن ان تُنزل الناس الى الشارع، وتضرب ما تبقّى من أمل، وتسرّع الانهيار الذي يجري الحديث عنه، من دون ان تؤدّي الى أي إنقاذ.
الاجراءات القاسية والظالمة التي يمكن ان تمنع الكارثة في المرحلة الاولى، تحتاج مناخاً مناسباً لاتخاذها. بمعنى انّ أي إجراء استثنائي في الوضع السياسي الراهن، في غياب الاتفاق على حكومة، وفي ظل مناخ المناكفات الذي يوحي بأنّ العقلية لن تتبدل، حتى لو تمّ تأليف حكومة، تؤدي إجراءات التقشّف فيها الى تعقيد الوضع المالي اكثر، لأنها تبعث برسالة مُقلقة باحتمال حصول مواجهات داخلية، الأمر الذي قد يؤدي الى موجة هروب أموال من لبنان.
ولأنّ حجم الاموال الموجودة في المصارف هي معيار أساسي للصمود، يُفترض أن يتمّ بناء الحسابات واتخاذ القرارات على اعتبار انّ الاولوية المُطلقة هي للحفاظ على هذه الاموال، التي يشكّل مجموعها في النتيجة، دين عام الدولة، دين القطاع الخاص، إحتياطات مصرف لبنان، وودائع الناس طبعاً.
ينبغي وقف الحديث عن إلغاء السلسلة بالطريقة التي يتم فيها. فالدولة في الواقع تحتاج الى ما هو أكثر من ذلك، وإلغاء السلسلة في المناسبة، وحتى لو لم يؤدّ الى مواجهات داخلية، لن ينقذ الوضع المالي والاقتصادي.
المطلوب حد أدنى من المناخ الايجابي، يسمح باتخاذ إجراءات قاسية ضمن سلة متكاملة لا تستهدف رواتب القطاع العام حصراً، تؤدي عملياً الى تأمين وَفرٍ بحوالى 5 مليارات دولار سنوياً (من الكهرباء ورواتب القطاع العام)، وزيادة في الايرادات من خلال ضرائب غير مباشرة يدفعها الشعب الفقير المظلوم، عبر رسم إضافي مقطوع على البنزين ورفع الـTVA (حوالى مليار ونصف المليار دولار).
وبعد ذلك، يمكن أن نتحدث بـ»سيدر 1» وخطة «ماكينزي» ومكافحة التهرّب الضريبي، وكل التوابع الأخرى لإعادة الاقتصاد الى وضع طبيعي بعد سنوات.