صار المواطن اللبناني على يقين بأنّ كل يوم يمرّ وسط هذا التعطيل، يتقدّم البلد خطوة على طريق الوجع، وعلى الرغم من اقتراب المسافة من هذا النفق المجهول، فإنّ هذا المواطن أُكره على الاستماع مجدداً الى لغة الشارع ومفردات الفتنة، وفي الوقت نفسه على متابعة ما سُمّيت محاولات لفتح كوة في جدار الازمة وتفكيك لغم التعطيل وحلّ آخر العقد الماثلة في طريق الحكومة، والمتعلقة بتمثيل «سنّة 8 آذار» فيها، فيما هذه المحاولات لا تحمل العلاج الشافي لهذا المرض، بل لا تعدو كونها مجرّد «بروباغندا» إعلامية لا تقدّم ولا تؤخر في الأمر الواقع المعطّل. وفي أحسن الاحوال فإنها أشبه ما تكون بمداواة مرض عضال بـ«البانادول» والمسكّنات.
لا حلّ
هذه الخلاصة الوصفية، يتفق عليها كلّ المطلعين على أفكار الحلول والمخارج المطروحة، كونها لا تلامس أصل أزمة التأليف ومسبباتها، كما انها لا تقدم الحلّ المطلوب الذي يمكن ان يسلك طريقه الى القبول به، اضافة الى انّ نقطة الضعف الأساسية فيها تتجلى في أنّ الافكار التي تحملها غير قادرة على الخرق، يعيد بعضها طرح أفكار سبقَ وتمّ رفضها مثل حكومة من 32 وزيراً، أمّا بعضها الآخر فيرمي الى انتزاع الحلّ، أو بالأحرى مقعد وزاري، لتمثيل «سنّة 8 آذار»، من جيوب سياسية محددة، بطريقة المقايضة بين بعض الاطراف السياسية، ورفض هذا المبدأ من قبل الرئيس المكلف سعد الحريري، وكذلك رفض من قبل حركة «أمل» و«حزب الله» في ما يعني مبادلة أي وزير شيعي بأي وزير آخر.
وفي الوقت نفسه تتجنّب مقاربة جيوب سياسية معينة، من شأنها أن تحل المشكلة اذا تخلّت عن وزير من حصتها. والانظار هنا على الحصّة الخماسية الرئاسية، التي برزت حولها آراء سياسية، اعتبرت انّ الحل في يد رئيس الجمهورية، ومن بينها موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري، الّا انّ موقف الرئاسة الأولى حاسم لناحية التأكيد على رفض المَس بحصة رئيس الجمهورية.
في سياق هذه الصورة، إلتقى الرئيس المكلف، مساء امس، في بيت الوسط، وزير الخارجية جبران باسيل. والواضح انه لم يتوصّل البحث بينهما الى تصاعد الدخان الابيض ولا الى إحداث خرق ايجابي، حيث اكتفى المكتب الاعلامي للحريري بالاشارة الى انّ باسيل عرض عليه الافكار التي سبق وبحثها مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، في إطار الجهود الرامية لإيجاد حل لأزمة تأليف الحكومة.
علماً انّ الحريري سبقَ و«نَفّس» اللقاء قبل انعقاده، بتمَسّكه بموقفه وعدم الرضوح للضغوط ومحاولات الإبتزاز، أو التأثر بالصراخ السياسي الذي لن يؤدي الى أي نتيجة.
حكومة أقطاب
في موازاة هذا الإنسداد، كشفت مصادر موثوقة لـ«الجمهورية» عن فكرة حل للأزمة الحكومية، يحاول بلورتها أحد رؤساء الحكومات السابقين، واستمزاج رأي بعض المرجعيات السياسية حولها.
امّا فكرة الحل، بحسب المصادر، فتقوم على التراجع عن التوجه لتشكيل حكومة من 30 وزيراً، والذهاب الى تشكيل «حكومة أقطاب» من 14 وزيراً برئاسة الحريري، تضمّ في صفوفها شخصيات من الصف الأول من المكوّنات السياسية.
وبحسب المصادر، فإنّ الغاية منها تحقيق هدفين: الأول إخراج الملف الحكومي من أزمته، والثاني تشكيل حكومة قوية قادرة على اتخاذ قرارات وتنفيذها، خصوصاً انّ الحكومة الجاري تنفيذها - وما زالت معطلة - هي من النوع التقليدي ومن فصيلة الحكومات السابقة، التي بقدر ما هي فضفاضة بقدر ما هي غير قادرة على الحسم واتخاذ القرار.
طرح صعب
على انّ هذا الطرح، في رأي مراجع سياسية، قد يكون الأفضل للبلد في هذه المرحلة، إلّا انه من الصعب الذهاب اليه خصوصاً في ظل الاصرار على حكومة الـ30 وزيراً والشهية التي لا حد لها، للتوزير، إضافة الى انه في حكومة الـ14 لا يستطيعون أن «يرضوا الموعودين»، فضلاً عن انها لا تنهي أسباب الخلاف الحالية، إذ انّ المطالب ستبقى ذاتها، يضاف الى ذلك انها قد تعيد الاشتباك الى نقطة البداية حول الحصص والاحجام.
والأهم من كل ما تقدم هو على اي معايير سيتم تشكيل حكومة الـ 14؟ وثمّة محظور أكبر لدى فريق التأليف، وهو أنهم سيبقون متمسّكين بصيغة حكومة الـ30 حتى النهاية، وبالتوزيعة التي تمّ الوصول إليها بالتوافق مع الاطراف، لأنّ سقوط حكومة الـ30 سيُسقط معه حتماً المعايير التي شكّلت على أساسها، ويصبحون امام مشكلة فتح بازار التأليف من جديد، والدخول في معايير جديدة قد تكون خلالها الشروط والمطالب التي تطرح أكبر وأصعب بكثير من تلك التي طرحت خلال صياغة التركيبة التي ما زالت معطّلة حتى الآن.
يد خفية
وسط هذا الجو، يؤكد معنيون بملف التأليف لـ«الجمهورية» انه من غير المحتمل أن تشهد المرحلة الحالية تغييراً متّصلاً بالملف الحكومي، او تنازلات متبادلة من قبل اطراف الازمة، ما يعني بقاء البلد مترنّحاً تحت عناوين توتيرية مختلفة، ومعظمها يتظَهّر بطريقة الافتعال، على ما بَدا في الفترة الاخيرة، اذ بَدا جلياً انّ ثمة يداً خفية تلعب بأعصاب البلد، إن من خلال الشغب السياسي والاستفزازات وتحريك الغرائز واستحضار لغة الشارع، او من حيث استحضار مواد متفجرة، كسلسلة الرتب والرواتب وإثارة النقاش حولها مجدداً بين فريق يعتبرها عبئاً كبيراً على الخزينة والسبب الاساس في إرهاقها، وبين فريق يعتبرها حقاً مكتسباً لكل المستفيدين منها من موظفين ومتقاعدين.
واللافت في الساعات الماضية هو الاستنفار النقابي والتلويح بالتصعيد، سواء من قبل الاساتذة او من قبل هيئة التنسيق النقابي، في وجه ما أشيع عن توجّه لتخفيض السلسلة.
خليل لـ«الجمهورية»
وقال وزير المال علي حسن خليل لـ«الجمهورية»: كل الارقام التي جرى التداول فيها حول زيادة كلفة السلسلة مَغلوطة وغير دقيقة، ووحدها وزارة المال هي المعنيّة مباشرة بهذه الارقام وحقيقتها، ولا تعنيها أي مزايدات او حملات تضخيم للارقام والاعباء، معروفة الغايات والاهداف.
لا اكتراث أميركياً
الى ذلك، عكسَ عائدون من الولايات المتحدة الاميركية لـ«الجمهورية» لا اكتراثاً اميركياً في الوضع اللبناني، وعدم اهتمام بما اذا كان لبنان قد شكّل حكومته أو لم يشكلها. ولا وقت لدى أحد في الادارة الاميركية لكي يصرفه على متابعة الشأن الحكومي في لبنان، وجلّ ما يؤكده اللبنانيون هو إبداء الدعم بالموقف، والتأكيد على الصداقة وإيلاء الاولوية للمؤسسة العسكرية، والاكتفاء بتوجيه الدعوة الى بناء حكومة جديدة، إنما لا شيء ملموساً اكثر من ذلك، ولا توجّه الى اي مبادرات تجاه لبنان، خارجة عن المألوف المتّبَع منذ سنوات طويلة.
وبحسب هؤلاء العائدين فإنّ المسؤولين الأميركيين يصرّحون بالعداء الكامل لـ«حزب الله»، واتهامه بالاخلال باستقرار لبنان والمنطقة، وعلى الرغم من انهم يفضّلون ألّا يكون ضمن الحكومة اللبنانية، إلّا انهم يفضّلون في الوقت نفسه عدم التدخّل ويعتبرون تشكيل الحكومة اللبنانية شأناً لبنانياً.
أمّا موضوع النازحين السوريين، وكما ينقل العائدون من الولايات المتحدة، فلم يلمسوا أنه موضوع على نار إعادتهم الى سوريا، خصوصاً انّ السؤال المُلحّ حول مصير هؤلاء، وبالتحديد مَن هم في لبنان، يلقى جواباً مقتضباً: موقف الولايات المتحدة معروف بأنّ عودة النازحين يجب ان تحصل، إنما هناك تقارير تشير الى انّ بعض الذين عادوا تعرّضوا إثر عودتهم للملاحقة والضغط، وبعضهم تعرّض للقتل على يد النظام السوري.
إستعجال فرنسي
في المقابل، نقل نواب لبنانيون عائدون من العاصمة الفرنسية، اهتماماً فرنسياً بلبنان، ومتابعة للشأن السياسي والحكومي فيه. لكن في الوقت نفسه، نقلوا شعوراً بالاستغراب من تعقيد الملف الحكومي، وعدم المبادرة الجدية لمعالجة هذا الملف، خصوصاً انّ ذلك قد يكلّف لبنان خسائر كبرى سواء على صعيد مؤتمر سيدر إضافة الى التحديات التي يعانيها لبنان في مجالات متعددة، وتحديداً في مجال الاقتصاد.
وبحسب هؤلاء النواب، فإنّ الفرنسيين يكررون النصيحة للبنان ولكافة المسؤولين بضرورة تأليف الحكومة قبل ان تتراكم السلبيات ويكون تعطيل الحكومة مفتاحاً لعُقد إضافية اكثر واصعب، الّا انّ اللافت للانتباه هو المأخذ الفرنسي على لبنان لتدَخّله في المسألة القضائية المتصلة بقضية رجل الاعمال كارلوس غصن. قبل ان ينتهي التحقيق فيها، ويتبيّن ما اذا كان الطرف المعنيّ بهذه المسألة بريئاً او مذنباً.
وكشفَ النواب انهم عادوا برسالة فرنسية واضحة، مفادها انّ باريس لا ترى اي مبرر لتدخّل لبنان في هذه القضية القضائية الكبرى، وانّ هذا التدخل كان خطأ من الممكن تجنّبه.
تشجيع روسي
في هذا الوقت، أعربت روسيا عن أملها في تشكيل حكومة جديدة في لبنان بأسرع ما يمكن، مؤكدة على تمسكها بسيادته واستقراره وعدم جواز تدخّل جهات خارجية في شؤونه الداخلية. جاء ذلك خلال استقبال المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ودول إفريقيا نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف في موسكو، امس، مستشار الرئيس المكلف للشؤون الروسية، جورج شعبان.
وبحسب بيان للخارجية الروسية انه جرى تبادل الآراء حول تطور الأوضاع في لبنان، والتأكيد على السعي المشترك الثابت إلى تعميق مجمل علاقات الصداقة بين روسيا ولبنان وتوسيعها، بما في ذلك تعزيز الشراكة المتبادلة المَنفعة في مجالات الاقتصاد والاستثمارات والدفاع والأمن والثقافة والبيئة والتبادل الثقافي».
الحريري الى باريس ولندن
من جهة ثانية، علمت «الجمهورية» انّ الرئيس المكلف يتحضّر لزيارتين الى كل من باريس ولندن، خلال ايام لا تتعدى الاسبوع الثاني من كانون الاول الجاري.
واشارت مصادر موثوقة الى أنّ الزيارتين على صِلة بمؤتمر سيدر، حيث من المقرر أن يشارك الحريري في لقاء يعقد في باريس يوم 10 كانون الاول، مع الهيئات الاقتصادية الفرنسية، وفي حضور رئيس مجلس الانماء والاعمار نبيل الجسر، والامين العام للمجلس الاعلى للخصخصة زياد حايك، ورئيس هيئة ادارة قطاع البترول وليد نصر، ومستشار الرئيس الحريري للشؤون الاقتصادية نديم المنلا، وكذلك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وقالت المصادر انّ الغاية من الاجتماع هو تقديم شروحات واقتراحات حول كيفية الاستثمار في لبنان عبر «سيدر».
ويلي ذلك انتقال الحريري الى لندن، حيث يعقد لقاء في اليوم التالي 11 كانون الأول في منزل سفير لبنان في لندن، تُشارك فيه مجموعة من الهيئات الاقتصادية البريطانية، وشركات بريطانية كبرى ومستثمرون محتملون عبر «سيدر» في لبنان، إضافة الى محافل استثمارية دولية وشخصيات.
ويكون هذا اللقاء تمهيداً للمؤتمر الذي يعقد في 12 كانون الاول في فندق «سافوي» في العاصمة البريطانية، ولقد حضّرت له السفارة اللبنانية في لندن تحت عنوان «منتدى الاعمال والاستثمار اللبناني البريطاني».
ويرتبط هذا المنتدى بموضوع الاستثمار في لبنان، والبارز فيه انه سيجري على هامشه توقيع عقد شراء محركات من شركة «رولس رويس» البريطانية لصالح طيران الشرق الاوسط.
وبحسب المصادر، فإنّ نقطة الضعف اللبنانية حيال هذا الأمر، هي انّ الرئيس الحريري يذهب إليه ولبنان لم يشكّل حكومته بعد، وهو أمر من شأنه ان يُضعف كلمة لبنان. أمّا نقطة الضعف الثانية، فهي انّ انعقاد المؤتمر يُصادف في آخر شهر من السنة.
وكما هو معلوم، فإنّ الشركات بشكل عام تقوم كل آخر سنة ببرمجة حساباتها وجداولها، وليس استثماراتها اللاحقة. وتتمثّل نقطة الضعف الثالثة بأنّ انعقاد المؤتمر يتزامن مع تصويت مجلس العموم البريطاني على اتفاقية «بريكست»، حيث من المقدّر أن تكون أولوية الاهتمام البريطاني مُنصَبّة على هذا الأمر من دون غيره.