عتاة الباحثين في السياسة والتاريخ يذهبون إلى أن ما اقترفته بريطانيا يهدد وحدة أوروبا كما وحدة بريطانيا نفسها، بما يعطّل الأداة الوحيدة الناجعة التي أوقفت قَدرية الحروب المستمرة في القارة العجوز.
 

من يقرأ تاريخ العالم العربي في بدايات القرن الماضي، يستنتج الكوارث التي حملتها حروب الآخرين على بلداننا. وفيما تتراكم الكتب والمقالات بمناسبة مرور قرن على انتهاء الحرب العالمية الأولى، تقلّ تلك التي تتحدث عن الزلزال الذي ضرب الشرق الأوسط وفتك بالمنطقة دمارا وجوعا وأوبئة. بالمقابل كان وقع الحرب العالمية الثانية أكثر بروزا، ذلك أننا نعيش حتى اليوم ما خلفه من ظواهر الاختراق للمنطقة من قبل الدول الكبرى وصولا إلى قيام دولة إسرائيل في قلبها.

تندرج هذه المقدمة ضمن سياق تسليط الضوء هذه الأيام على مسألة دخول الاتحاد الأوروبي في الحقبة العملية لخروج بريطانيا من صفوفه. الأمر ليس شأنا أوروبيا بيتيا داخليا، بل إن حالة الغموض التي يتّسم بها هذا الاستحقاق منذ الاستفتاء الشهير على البريكست في يونيو 2016، تلقي ظلالا ثقيلة على مستقبل الحرب والسلم في العالم وعلى منطقتنا. ولا يتعلق الأمر بسوداوية مصطنعة، بل إن عتاة الباحثين في السياسة والتاريخ يذهبون إلى أن ما “اقترفته” بريطانيا يهدد وحدة أوروبا كما وحدة بريطانيا نفسها، بما يعطّل الأداة الوحيدة الناجعة التي أوقفت “قَدرية” الحروب المستمرة في القارة العجوز.

كان السياسي الفرنسي الشهير روبرت شومان معتقلا في سجون ألمانيا النازية حين أسرّ لرفاقه “المقاومين” في السجن أنه بعد نهاية الحرب سيعمل على إطلاق مشروعه الأوروبي الذي يتمحور حول الصداقة الفرنسية– الألمانية. كان كلام الرجل في تلك الحقبة، خارج أي سياق، وغير مقبول أخلاقيا، في فترة اشتدت فيها الأحقاد بين الأمتين، الفرنسية والألمانية، على نحو لم يكن مسموحا لأحد، في فرنسا خصوصا، بالتفكير بسيناريو تصالحي مع ذلك المخلوق الذي يمثل، بطبيعته، خطرا على فرنسا بالذات، قبل أن يتوسع هذا الخطر ليطول العالم أجمع.

خرج الجنرال شارل ديغول من تلك الحرب وفي باله هدف واحد هو تفتيت ألمانيا. كان الرجل يقول إن “ألمانيا خاضت ثلاث حروب ضد فرنسا خلال حياة إنسان” (1870، 1914، 1939)، وبالتالي، ووفق عقيدته، فإن ألمانيا يجب أن تختفي. عمل ديغول والحلفاء المنتصرون نهاية الحرب العالمية الثانية على تهيئة ألمانيا لمصير يوزعها على مقاطعات أربع، تلك الفرنسية والبريطانية والأميركية والسوفياتية. أراد ديغول، واستمع إليه الحلفاء، قتل ألمانيا. إلا أن شومان، ساعده في ذلك اندلاع الحرب الكورية في الخمسينات، فرض وقائع أخرى على ديغول وعلى التاريخ. وجد شومان في المشروع الأوروبي نهاية لقدرية الحرب في أوروبا، وكان ذلك.

يعتقد السياح، والعرب منهم، أن ظواهر السلم والازدهار التي يصادفونها في باريس وبرلين ولندن…إلخ، هي ظواهر طبيعية في أوروبا. ينسون أن هذه القارة صدّرت الكوارث إلى العالم، ففتكت حروبها بها وبنا. السلم في هذه المنطقة ليس حالة “عادية”، بل إنه في حكاية التاريخ الطويل “استثناء”، عمره عقود معدودة، هو عمر المشروع الأوروبي الذي أصبح “اتحادا” هذه الأيام. وحين تطل أخطار على الآلية التي أوقفت الحرب وأرست السلم، فإن من حقنا جميعا أن ندرك أن ذلك نذير العودة إلى حقبة سوداء في تاريخ الإنسانية الحديث، اعتقدنا طويلا أن لا عودة إليها.

لم تنظر بريطانيا بعين مريحة إلى مشروع شومان وصحبه. تحكّمت في بريطانيا على مرّ التاريخ عقلية الجزيرة التي يخاف أهلها ما يأتيهم من خلف البحار. توسّعت بريطانيا وأصبحت عظيمة، و”إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس”، لكنها، مع ذلك، استوطنتها هوية الجزيرة وطبيعتها الانعزالية. نظرت لندن بعين حاسدة إلى نجاح التجربة الأوروبية وازدهارها. وحين اجتاحتها الأزمات الاقتصادية في نهاية الخمسينات تقدمت عام 1961 بطلب، انتهازي، للانضمام إلى “أوروبا” علّها تقتات من خيراتها.

كان ديغول الفرنسي ينظر بعين الشك إلى هذه الاستفاقة البريطانية على أوروبا. وعلاوة على ذلك كان ديغول يشكك في هوية بريطانيا الأوروبية، ولطالما كرر أن بريطانيا ليست إلا “حاملة طائرات أميركية في قلب القارة الأوروبية”. وعليه وضع ديغول “فيتو” على قبول عضوية بريطانيا ورُفض أمر ذلك مرتين.

لم تدخل بريطانيا إلى النادي الأوروبي إلا عام 1973. كان ديغول قد غادر الحياة السياسية في بلاده قبل سنوات متأثرا بالرضوض التي أصابته جراء “ثورة عام 1968” في بلاده. تسللت لندن وبقيت متدللة في أوروبيتها. بدا أن بريطانيا تود النهل من المتوفر دون أي حماسة للانغماس الكلي داخل الفضاء الأوروبي الواعد. رفضت لندن أن تنضم إلى اتفاقية الـ”شنغن” للحدود المفتوحة، ولم تقبل أن تضحي بالجنيه الإسترليني لصالح اليورو.

بمعنى آخر، عملت بريطانيا على وضع حدود لعضويتها، وعمل الأوروبيون بالمقابل على احترام “الخصوصية” البريطانية، وتفهم ثقافة الجزيرة في عقلية النخب الحاكمة. وحده مشروع “نفق المانش” وصل الجزيرة باليابسة الفرنسية في عهد الثنائي فرانسوا ميتران – مارغريت ثاتشر، لكن ذلك لم ينلْ من نزوع بريطانيا التاريخي لوضع تلك اليابسة الأوروبية وراءها، والنظر إلى تلك الأميركية على الضفة الغربية من المحيط الأطلسي.

قررت بريطانيا الطلاق من أوروبا. بدا أن لندن تمعن في انتهازيتها في السعي لئلا يكون الطلاق انفصالا. اكتشف “البريكستيون” أنهم خاسرون من قطيعة عن القوة الاقتصادية الهائلة التي أصبح عليها الاتحاد الأوروبي. بالمقابل، وبعد أن تجاوز الاتحاد الأوروبي حرده من بريكست بريطانيا، وضبط غرائزه التي كان يريدها عقابية ضد لندن، قدم لرئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، اتفاقا يُبقي بريطانيا شريكا وصديقا وحليفا حتى خارج جدران الاتحاد.

خسر الاتحاد الأوروبي عضوا. كادت السابقة البريطانية أن تجد لها مريدين عند بعض الأعضاء الآخرين. راجت داخل بعض الدول الأوروبية تيارات كارهة للاتحاد الأوروبي، وللمفارقة من اليمين واليسار. كادت بعض العيون تلـمحُ تفسخا في بنيان الاتحاد. فإذا ما تم إنقاذ وحدة الاتحاد واستمراره هذه الأيام فإن نذر تفكك قد تمتد إلى داخل بريطانيا وهي بالنهاية مملكة متحدة. يعطي الاتفاق الأوروبي البريطاني وضعا خاصا لمقاطعة أيرلندا الشمالية على نحو يغري اسكتلندا بالدفع باتجاه الترويج لانفصال عن العرش البريطاني يجعلها في مكانها “الطبيعي” دولة داخل الاتحاد الأوروبي. فبالنهاية صوت الاسكتلنديون بكثافة في استفتاء 2016 لصالح البقاء داخل أوروبا.

أن تتفكك بريطانيا وأن يتفكك المشروع الأوروبي فتلك فرضيات عصيّة في الوقت الراهن لكنها احتمالات قد تنفخ بها رياح خبيثة مستقبلا. أن تصبح “بريطانيا أولا” و”أميركا أولا” و”فرنسا أولا” من قواعد العقائد الأخلاقية التي تنفخ في واشنطن مع دونالد ترامب، وفي أوروبا مع تصاعد التطرف الذي تقدم إلى صفوف الحكم في هنغاريا والسويد وإيطاليا والنمسا إلخ، فتلك علامات كان ليرتعب لها روبرت شومان لو كان حيا. وربما حريّ أن نراقب بدقة وحرص حيثيات ما جرى وتفاصيل ما سيجري، ذلك أن مستقبل السلم والحرب في العالم يتحدد في أروقة السلطة داخل لندن والجوار.