انتظرت كل شيء إلاّ أن يخرج علينا أستاذنا طه عبد الرحمن بأُطروحة عن «مقاومة» الظلامية الغربية الشريرة. فطوال أكثر من ثلاثة عقود كان الشيطان الأكبر لديه هو العلمانية الفظيعة الهول. ثم عندما انتشرت ظواهر العنف باسم الإسلام، ازداد إغراق الرجل في الروحانيات، وعرض في عدة كتب مقاربة متكاملة للنزعة «الائتمانية» كما سماها، والتي تُحيل الدين وقوته الناعمة إلى أخلاق تمتنع على التبعية وعلى التطرف. ولأنني كنتُ وقتها أُقابل الراحل عبد الوهاب المسيري، وأمزح معه بشأن كتابه في «التحيُّز»، وموسوعته في اليهودية والصهيونية؛ فقد قلت له: يا رجل، حتى إدوار سعيد ما بلغ مبلغك في لعن الغرب وتهويده، ألا تتخلق ببعض الأخلاق الصوفية، وتلتفت إلى «القوة الناعمة» في الدين التي يحاول الأستاذ طه عبد الرحمن اكتشافها؟! وأجابني المسيري يومها وقال إنّ الأستاذ طه مفكر عظيم، ويكفيك دليلاً على ذلك أنّ كلَّ زملائه اليساريين في الجامعة يكرهونه لصلابته في الوقوف مع دين الأمة وأخلاقها، لكنّ مقاربته يا رضوان غير كافية ولا تشكّل غير حلٍ فردي، إذ إنّ الاعتدال في الدين أو استعادة السكينة كما تحبُّ أن تقول يحتاج في إحقاقه في النفوس والمجتمعات والنصوص إلى «عدلٍ» في العالم، وفي الأمة والدولة! وقلت: لكنك هنا تتحدث عن شروطٍ للاستقرار الداخلي والسلام العالمي، فهل يضطرب الدين بسبب الاختلالات وعليه الاعتماد؟ إنّ ما تذهب إليه يا أستاذ يتجه لأحد نوعين من الاستهواء: جماعات الإسلام السياسي، أو جماعة الجهاديين، ولو كنا في ظروفٍ مختلفة لقلت: أو اليسار المتطرف! وكلا النوعين من الأسلمة (بداعي التأثير في دولنا وفي العالم) هو خداعٌ للنفس، ومُعاداة للعالم، كمن يلحس المبرد: التمرد الانتحاري والاتجاه إلى التطرف الديني أو الثقافي أو السياسي هو انتقامٌ من النفس والجماعة، قبل أن يكونَ انتقاماً من العالم المتآمر والأنظمة غير الصالحة!
لقد بدأ الأمر لدى اليسار الغربي الجديد، وضمنه بعض أساتذة الاقتصاد والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، فانصرفوا لنقد ما سمَّوه الخطاب الاستعماري، وليس في الاستراتيجيات السياسية فقط؛ بل وفي التاريخ والثقافة والعلاقات الحضارية والدينية بين الغرب اليهودي - المسيحي وأُمم العالم وشعوبه ودياناته خصوصاً المسلمين والإسلام. وكان مرتكز راديكاليي اليسار هؤلاء الليبرالية الغربية بالذات، واستظهارهم أنّ القادة السياسيين والمفكرين الغربيين لا يصْغون ولا يطبقون المعايير التي قامت عليها الدولة الحديثة، دولة حكم القانون والديمقراطية. إنهم يمارسون منذ قرنٍ وأكثر ازدواجية في المعايير فاقعة في صلافتها ونفاقها، ولذلك فهم ومثقفوهم واستراتيجيوهم ومستشرقوهم (أو خبراؤهم في التعامل مع الشرق) يستحقون الإدانة بالمعايير ذاتها التي اخترقوها وناقَضوها. وهم يُنذرون الساسة الغربيين والاستراتيجيين والمفكرين من صُنّاع «صِدام الحضارات» أنّ ردود الفعل ستكون قاسية وكارثية؛ وإنْ عجزت عنها الحكومات الحليفة لكم في الأصل؛ فلن تعجز عنها الشعوب التي يحمل راديكاليوها الجدد شعاراتٍ دينية، ومن «القاعدة» إلى «داعش» إلى البوذيين قاتلي الروهينغا فإلى مؤمني الإله راما الهندوس! وقد كتب بعض هؤلاء بالفعل - بعد وفاة إدوارد سعيد الذي يمارسونه ضد ضحاياهم وضد التحضر والحضارة، وكل ما يرمز إلى الغرب ومقدساته الدينية والثقافية. وما برر الليبراليون الجدد العنف الأعمى لكنهم حاولوا أن «يفهموه»!
إنّ الجيل الذي جاء بعد جيل إدوارد سعيد من الراديكاليين الغربيين، ما عاد يمكن تسميته يسارياً أو ليبرالياً، بمعنى أنه يريد سياسات ليبرالية صادقة ونزيهة في الدولة (الغربية) والمجتمعات. بل هو يُدينُ الدولة الحديثة ذاتَها باعتبارها حتى في أشدّ لحظاتها «ليبرالية» كياناً للتسلُّط وانتهاك الطبيعة الإنسانية، والتغرب عن مجتمعاتها واستهوائها واستغفالها واقتيادها في عمليات استغلال البشر واستعبادهم.
وفي الوقت الذي تفاقم فيه لدى هؤلاء المثقفين الإنسانويين الإحساس باليأس من مسارات إدارات الدول في أوروبا وأميركا وأستراليا، واستيلاء اليمين الشعبوي عليها، بدأت ردود الفعل على الأحداث الهائلة في الشرق الأوسط لدى المثقفين العرب تتعاظم، وبخاصة بعد غزو العراق، واستشراء التطرف والإرهاب، وتعملُق القوة الإسرائيلية. فقد مضى بعضهم - وقد سبق أن تعرضْنا لهم - باتجاه إدانة الأرثوذكسية السنية واعتبارها مسؤولة عن العنف، فتابعوا دعوتهم للتخلص من الموروث الديني. وانشعب منهم فريقٌ للنواح على صدّام والقذافي، والمطالبة بدعم بشار الأسد باعتباره آخر القوميين العرب، ونصر الله باعتباره آخر المقاتلين لإسرائيل! بيد أنّ الفريق الأكثر جذرية وراديكالية، مضى رأساً باتجاه الدولة الغربية، شأن الإنسانويين العدميين الغربيين؛ فأدان الدولة الحديثة بعُجَرها وبجَرها، وعاد فذكّر الإبادات التي اقترفتها ضد الشعوب في أوروبا وأميركا، وأكثر في آسيا وأفريقيا. فالأستاذ وائل حلاّق، وهو من أصول عربية فلسطينية، وهو أكبر المتخصصين الأحياء في تاريخ الفقه الإسلامي، وأستاذ كرسي الدراسات الإسلامية بجامعة كولومبيا، أصدر أخيراً مجلداً ضخماً بعنوان «مراجعة الاستشراق»، واحزروا مراجعة أي استشراق؟ مراجعة استشراق إدوارد سعيد (1977). فبحسب حلاّق يتضمن كتاب سعيد ثماني مقولات، يعمل هو على نقض أربعٍ منها، وقَود الأربعة الأُخرى إلى نهاياتها. ونهاياتُها أنه لا أمل في الغرب الحديث، ولا في دولته الليبرالية الديمقراطية حتى لو كانت دولة جون راولز ونظريته في العدالة! وكنتُ قد لخّصتُ كتاب الأستاذ حلاّق «الدولة المستحيلة» (2013) وكتبتُ ملاحظاتٍ عليه فأغضبه ذلك كثيراً. وسأعود بالطبع لأناقشه في كتابيه العظيمين: «الشريعة» (2009)، و«الاستشراق» (2018) في إحدى المجلات الأكاديمية. ثم ظهر الآن كتيب أستاذنا طه عبد الرحمن ودعوته للمقاومة للغرب ولأعوانه بديارنا. وإلى ذلك تظهر كل يومٍ تقريباً كتب مترجمة أو مؤلَّفة من دُور نشرٍ معينة تسير في مسار: التكريه بالغرب ودولته الحديثة غير الإنسانية، وتنتهي إلى نتائج تُضرُّ بشعوبنا المصابة، وإنساننا المُتعَب ودولنا المتعِبة والمتعَبة. إذا قلنا للأكاديمي الكبير: الغرب مُدان، ودُولُنا الوطنية مُدانة، فإلى أين نذهب؟ فيجيبك: أنا باحثٌ مدقِّق ولستُ مُرشداً ولا داعية. وإذا قلنا للمثقف العربي المسيَّس: إلى أين نذهب؟ فيجيبك من دون تردد: إلى خامنئي ونصر الله وبشار الأسد. فالأكاديمي جرّاحٌ محايد، والمسيَّس حوثي يرفع الشعار المنافق: الموت لأميركا والموت لإسرائيل!
قلتُ لأحدهم عندما كان يسخر من ثلاثيتي: استعادة السكينة في الدين، واستنقاذ الدولة الوطنية، وتصحيح العلاقة مع العالم: كيف تريدنا أن نُوالي إيران بسبب خصومتها مع أميركا وإسرائيل، وهي تسلِّط ميليشيات طائفية علينا فتقتل الناس وتخرّب العمران، وتحاول تغيير دينهم وقوميتهم؟! لماذا لا نتساعد نحن المثقفين في الإصلاح الديني وفي الإصلاح السياسي العربي؟ فقال: إنه لا أمل إلاّ في إيران لأنها الوحيدة الواقفة في وجه أميركا! وقلت: لكنْ سواء انتصرت إيران أو خسرت في المواجهة، ماذا نستفيد نحن إذا بقيت ميليشياتها في ديارنا، وظلت شعوبنا منقسمة ومنفية أو مهجَّرة؟! فقال وهو ينصرف: تساؤلاتك تعجيزية وجدالية، وأنت داؤك الخوف من الثورة! فقلت: وأنت داؤك كراهية مصر والسعودية، وإلاّ فكيف تفكّر في هذا الحلّ لنا والذي بالتأكيد لا مصلحة لك فيه ولا ضرر منه عليك، لأنّك تونسي، فقال: بل جزائري، قلت: وهذا أبعد وأقل معقولية!
معظم المثقفين بل والسياسيين العرب في حالة يأسٍ أو شقاءٍ أو ضلالٍ في الوعي (Discontent, Resentment). وهم يسترون ذلك كلّه بالاستخذاء والركض وراء الأَوهام. أفظع ما يصيب الواحد منا الإحساس بالعجز ووضع المسؤولية على الغير أو إيكالها إلى الغير.