الشاهدُ الأصدق على الكاتب قلمه، فهو مَن يتسلّق جدران السجن البيئي والإجتماعي الضيق الذي يعيشه الفرد بكلّ خشونته ومطبّاته وانزلاقاته، وهو مَن يشيّد ملحمةً من السرد تختصر مجتمعاً كاملاً وقد تختصر وطناً بأكمله.
 

العجيب أنّ نجيب محفوظ يستطيع دائماً وببراعة أن يلخّص حكاياته بما تتضمّنه من تهكّمات سياسية وتعرّجات اقتصادية وهيكلية بيئيّة بشكلٍ متناسق وسلس بحيث يبتكرُ الحبكة دون أيّ عناء، ويستهلّ السرد الشيّق دون استعانة بالأدوات الضرورية لحواشي النص، وكأنه يختلق جوّاً متجرّداً من القواعد المتّبعة ولكن دون خلل فيها في الوقت نفسه وهذا فنّ خطير وعميق لم يستطع أن يجاريه فيه أحد.

ملحمة كاملة

في رواية «الباقي من الزمن ساعة»، يحدّث محفوظ القارئ عن ملحمة كاملة للشعب المصري منذ عام 1936 حيث مرّ بعصور متناقضة من الملكية والناصرية والإشتراكية وأفكار إسلامية، فينطلق من عهد الملك إلى عبد الناصر والنصر ثمّ النكسة وما بعد تولّي السادات الحكم مروراً بكلّ الخيبات والاغتيالات والتكهّنات والعواطف التي جاشت في نفوس المواطنين، وفي أفراد عائلة واحدة استطاع أن يرسمَ خطّاً أيديولجيّاً لكلّ شخصٍ فيها من انتماء سياسي يناقض الشخص الآخر إلى أفكار حاسمة يتبنّاها ومصير مجهول.

قصة حبّ نقيّة

حامد برهان المواطن المصري الجدي البسيط الذي يتزوّج سنية المهدي فتنجب له كوثر ومحمد ومنيرة، وتجمعهما قصة حب نقيّة، ويصبح منزلهما الدافئ صرحَ سمر وألفة للأصدقاء فيدور حديثهم دائماً عن السياسة والحرية والديمقراطية وهنا يلمّح محفوظ إلى قدرة العقول البسيطة على التخيّل المشهدي للمصير الوطني الذي تتوقّعه وترسمه.

يكبر أولادهما ويُحال حامد إلى المعاش وبعد سنين طويلة من الوفاء يقع في حبّ سيدة أرملة تكبره سنّاً انتقلت لتعيش بجوار منزلهما فيتزوجها سرّاً ثم يصارح سنية بالوضع فتصدم وتطرده من المنزل، ولكنه لا يلبث بعد فترة أن يبتلى بالمرض فيعود إلى منزل سنية وأولادهما بعد أن يلتمس نفوراً وجفاءً من زوجته الجديدة التي تأبى أن تمرّضه.

جيل يعجّ بالتناقضات

يموت الأب ويتزوج أولاده ويعتنق كلّ منهم منهجاً سياسياً معيّناً، فابنه محمد ينتمي للإخوان المسلمين ويعتبر الإسلام هو الحل الأمثل لتسيير السياسة والحكم في مصر، ومنيرة تعتنق الناصرية وتؤمن بأنّ عبد الناصر هو المنقذ الموحّد، أما كوثر فتمثّل الإعتدال في الخط السياسي أو الصفحة الناصعة البيضاء. وعندما ينجبون، يتخّذ أولادهم خطّاً موازياً لهم ثم يثورون عليه، وبذلك يعلن محفوظ بأنّ الجيل الثالث يعجّ بالمتناقضات المنطقية وبالترسّبات الإنطوائية جرّاء التفكك الذي حصل في النفوس بعد النكسة والخسارة وموقف السادات من السلام مع إسرائيل.

الأحفاد يشبّون ليطالبون جدّتهم سنية ببيع منزل زوجها الكبير حتى يستطيعوا أن يؤمّنوا مستقبلهم بعد أن تفاقمت الأزمة الإقتصادية في مصر، وحلّت الكوارث بها، فتنتفض الجدة وتأبى أن تسلّم زمام أمرها ودارها لهم.

السهل المبطّن

البيت في القصة يمثل أرض مصر، وهنا يرمز الكاتب بأنّ بعض أبنائها يحاولون بيعها وتدميرها، ومقايضة الغالي بالرخيص.

نجيب محفوظ لا يكتب قصة إلّا ووراءها قصة أعمق وأغنى أثراً من المعنى الظاهري، فهو يتّبع مبدأ السهل المبطّن والصعب الموثق، ويسرد غيباً ما يستطيع أن يقرأه علناً، وهنا يستنبط بإبداعاته رمقاً جديداً من حنجرة العناصر الروائية، ولا عجب أنّ صاحب جائزة نوبل قد تحوّل إلى مرجعٍ هام لأصول ومناهج الرواية العربية.

رواية «الباقي من الزمن ساعة» تحوّلت إلى مسلسلٍ تلفزيوني ونال نجاحاً منقطع النظير لأنّه عكس ظلال الواقع المصري والشرقي بشكلٍ عام من تخبطات نفسية وتحسّرات إنسانية على تاريخ وطنٍ بأكمله. سألني يوماً طفلي كريم مَن يدوّن التاريخ؟ أجبته الإجابة التقليدية، وهي أنّ المؤرّخ هو مَن يسجّل الأحداث الهامة فيه. وفاتني أن أجيبه بأنّ بعض الكتّاب مثل محفوظ قد دوّنوا جزءاً لا يُستهان به من تاريخ الأمة العربية.