ليس مهماً إن كان أدهم خنجر هو بطل الاستقلال اللبناني الوحيد على ما ذهب النائب عن «حزب الله» نواف الموسوي يوم عيد الاستقلال، أو إن كان قاطع طريق ومرتكب مجازر بحق القرويين المسيحيين في جنوب لبنان، كما تقول روايات أخرى.
وليس مهماً، أيضاً، إن كان خنجر ورفيقه صادق حمزة اللذان أعدمهما الاحتلال الفرنسي في عشرينات القرن الماضي تصرَّفا انطلاقاً من إيمانهما بانتماء لبنان وجنوبه إلى سوريا التي كانت تحت الحكم الفيصلي عندما بدآ نشاطهما المسلح أو إذا كانا يمثلان تقاطعاً بين الولاءات الأهلية والعربية والطائفية وضعتهما في مواجهة مع الفرنسيين والمسيحيين في لحظة تاريخية ملتبسة.
الأقرب إلى الصواب أن اللبنانيين لن يصلوا إلى اتفاق حول الأدوار الدقيقة التي أدتها هاتان الشخصيتان في التاريخ الحديث، تماماً مثلما لن يتفق مواطنو البلد هذا ونخبه ومثقفوه ومؤرخوه على تقييم أي حدث كبير جرى منذ الاستقلال قبل خمسة وسبعين عاماً حتى اليوم، لا حول الحرب الأهلية الصغيرة في 1958، ولا على الدور الفلسطيني، ولا على الحرب الأكبر بين 1975 و1990، ولا على الوجود السوري. أضف إلى الأحداث المختلف عليها، شخصيات ما زال اللبنانيون منقسمين حولها وفي شأنها، مثل بشير الجميل ورفيق الحريري وكمال جنبلاط وسليمان فرنجية (الجد) وغيرهم.
في المقابل، من المفيد بقاء الجدل حول هؤلاء الأشخاص والأحداث التي شاركوا في صنعها كساحة للتفكير النقدي والحر. ذلك أن كل الشعوب والجماعات الأهلية والمؤمنين بالأديان المختلفة يربطون انتماءاتهم بروايات تاريخية هي في الغالب موضع خلاف مع شعوب وجماعات أخرى. واختراع التقليد (حسب عنوان كتاب للمؤرخ الراحل إريك هوبزباوم وزميله الأقل شهرة تيرنس رنجر) يرمي في المقام الأول إلى توحيد الجماعة وتعزيز لحمتها ومنحها ملجأً نفسياً ومعنوياً من الاضمحلال أمام روايات وتقاليد الجماعات المنافسة التي قد تكون أقوى وأكثر عدداً وتقدماً وصاحبة إرث ثقافي كبير. وثمة شرعية ما في سعي كل مجتمع أو شعب إلى الحفاظ على هويته ولو من خلال ابتكار تاريخ قد لا يكون له نصيب يذكر من الوقائع، لكنه يمنح البشر المعنيين الشعور بالرفعة وبالأهمية في نظر أنفسهم على الأقل.
وليس نادراً أن يتعايش أكثر من سردية تاريخية في دولة واحدة. في بريطانيا نجد تواريخ متجاورة للإنجليز والاسكتلنديين وأهالي ويلز والآيرلنديين (الشماليين ومن ثم علاقتهم ببريطانيا وبالآيرلنديين الجنوبيين)، وثمة تواريخ متعددة في إسبانيا أيضاً، حيث تتساكن السرديات الكتالونية والباسكية والإسبانية المركزية بعضها مع بعض. كذلك الأمر في الولايات المتحدة التي تعد بلداً جديداً نسبياً، إذ إن السكان الأصليين متمسكون بتاريخهم وبكونهم ضحايا إبادة جماعية نظّمها الأوروبيون البيض، وللتاريخ الأفريقي – الأميركي موقعه الخاص. كذلك الأمر بالنسبة إلى الجنوبيين الذين لم يَبْرأوا بعد من جراح هزيمتهم أمام الشمال. بيد أن في كل بلد من البلدان المذكورة رواية رسمية – إذا جاز التعبير - تعتمدها الدولة ومؤسساتها خصوصاً التعليمية، بينما تنسحب السرديات المختلفة إلى نواحٍ أضيق يؤمّها الأكاديميون والباحثون إضافة إلى الناشطين السياسيين. ومن البديهي أن يزداد الاهتمام بالسرديات التاريخية المُغْفَلة عند ارتفاع التوتر السياسي أو العرقي والهوياتي عموماً، حيث تلجأ كل جماعة إلى تاريخها (الذي يحتوي على الكثير من الخيال، من دون شك) لتقديم دعاواها والاستحواذ على مكاسب تراها من حقها.
في لبنان، تبدو مسألة التواريخ مشابهة مع وجود العديد من السرديات والروايات لتواريخ الجماعات مع إضافة مهمة تتلخص في أن الدولة اللبنانية لم تفلح في وضع تاريخ موحد تأخذ به كل المؤسسات التعليمية بسبب هيمنة الطوائف والقوى السياسية المختلفة على المؤسسات تلك واعتراضها على الصيغة التي توصلت إليها لجنة من الخبراء الأكاديميين حول تاريخ لبنان في تسعينات القرن الماضي. عليه، احتفظت كل طائفة بروايتها لتاريخها ولتاريخ لبنان كما تراه. يعيق الإصرار على التاريخ الأهلي تشكُّل هوية وطنية. لا ريب في ذلك. ويعيد إنتاج التصورات القائمة على الهوية الطائفية والمظلومية أو الاستقواء (تبعاً للوضع السياسي في اللحظة المعنية). ينجم عن خلاصة التصورات هذه موقف سلبي من الدولة باعتبارها مكاناً لتصريف النفوذ الأهلي وليست ساحة للتفاعل بين المكونات المختلفة.
هذا الواقع يفسّر لماذا تبرز في كل مرحلة ومحطة سرديات تاريخية يسعى أصحابها إلى فرضها كحقائق مطلقة على مواطنيهم اللبنانيين حتى لو كانوا من أنصار سرديات منافسة. عليه، لا تكمن مشكلة كلام النائب نواف الموسوي في تطابقه أو عدم تطابقه مع الواقع التاريخي، فنحن نعيش في زمن «ما بعد الحقيقة» و«الحقائق البديلة» بل و«الوقائع البديلة»، وفي ظل «نسبية تاريخية» وثقافية وأخلاقية، على ما تذكّرنا وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وتصريحات رؤساء الدول الكبرى وممثليهم، كل يوم. ولكل الحق في الاعتقاد بما يشاء وتعميم «ثقافته» على أتباعه.
المشكلة تتركز في التصور أن الغلبة العسكرية والسياسية يجب أن تصاحبها الغلبة الآيديولوجية. يعلم اللبنانيون أن «حزب الله» هو صاحب القرار الحقيقي في شؤون عدة تمس حياتهم وموتهم، وأن الدولة تنازلت له عن الكثير من حقوقها الحصرية. من جهة ثانية، تفتقر السردية التي يسعى الحزب إلى فرضها على باقي اللبنانيين إلى أي قدر من الجاذبية (ناهيك بالتماسك التاريخي)، ولا تمثل بديلاً قابلاً للتصديق عن الآيديولوجيا التي يُحكم لبنان بها منذ استقلاله حتى اليوم على الرغم من الإفلاس النهائي الذي أصابها في أثناء الحرب الأهلية. آيديولوجيا تعلن الإخاء بين أبناء الطوائف المختلفة والقدرة على تسوية الخلافات بالحوار والتعايش الناجح بين المسلمين والمسيحيين. أي، باختصار، كل ما فجّرته الحرب وأثبتت كذبه. لكن المأساة أن ما من بديل ظهر من غبار ذلك الانهيار. وليست سردية أحادية فقيرة هي ما سيجمع اللبنانيين ولو رُفعت السيوف فوق رؤوسهم.