لم يكن زواجاً عن حب أو بالأحرى عن إقتناع، كان على مدى أربعين عاماً مساكنة أو معاشرة، أو لنقل إرتباطاً تخللته دائماً رغبة في الإنفصال. الآن ليس المهم ان يكون الإعلان السياسي عن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي “يوماً حزيناً ومأساة”، كما وصفه رئيس المفوضية الأوروبية جان – كلود يونكر، لكن المهم ألا يشكل هذا الطلاق مدخلاً الى دومينو من التطورات الدراماتيكية، التي يمكنها بالتالي ان تدمّر حقبة ذهبية من التعاون وروح الوحدة بين الدول الأوروبية، وتعيدها مئة عام الى بداية القرن وذرّ النزاعات!
ولعل من المفارقات المثيرة، ان يحدث خروج بريطانيا من الوحدة الأوروبية بعد أربعة عقود، دوياً مأسوياً تماماً كما أحدث دخولها هذه الوحدة عام ١٩٧٣ دوياً درامياً، ولهذا قصة معروفة جيداً تدفعني اليوم الى القول ان الجنرال شارل ديغول كان في حينه قد تنبأ تماماً بما يحصل اليوم.
في ٢٧ تشرين الثاني من عام ١٩٦٧ وقف ديغول في قصر الإليزيه أمام نحو من ألف شخص من الديبلوماسيين ورجال الدولة الفرنسية وقال بالحرف : “ان بريطانيا تملك كراهية متجذرة للكيانات الأوروبية”، وحذّر من ان فرض بريطانيا كعضو في السوق الأوروبية المشتركة سوف يؤدي الى تحطيمها!
في عام ١٩٦١ تقدمت بريطانيا بطلب الإنضمام الى السوق الأوروبية المشتركة، لكن ديغول رفض ذلك، رغم موافقة الدول الأخرى في السوق عام ١٩٦٧، ولم تتمكن بريطانيا من ان تدخل السوق إلا عام ١٩٧٣، اي بعد مرور أربعة أعوام على ترك ديغول الحكم عام ١٩٦٩.
كان ديغول يعرف جيداً ان بريطانيا، التي خسرت مستعمراتها في العالم، ترغب في ان تكون جزءاً يستفيد من السوق الأوروبية، لكن من غير ان تقبل الإلتزامات الكاملة لهذه العضوية، ولهذا مثلاً عندما تم تبني نظام شنغن لتأشيرات الدخول رفضته بريطانيا، وعندما تم تبني اليورو كعملة موحدة لدول السوق تمسّك البريطانيون بالجنيه، وبسلطة بنك انكلترا المركزي في تحديد سعر الفائدة.
في التاريخ البريطاني كان ونستون تشرشل مؤمناً بأن حلّ مشاكل القارة يحتاج الى إقامة وحدة كاملة بين دولها، لكن مارغريت تاتشر مثلاً كانت معارضة شرسة لذلك وصرخت مراراً رافضة فكرة تشكيل “الولايات المتحدة الأوروبية”. بعد الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨ بدأ التململ من الوحدة وإلتزاماتها، وعندما وعد ديفيد كاميرون بالإستفتاء على “بريكست”، لم يكن يتصور ان ٥٢٪ من البريطانيين سيقررون الإنفصال!
لكن هذا الإنفصال الذي يصدّع اليوم حكومة تيريزا ماي باستقالة عدد من الوزراء، يهدد الآن بإرتفاع حدة الرياح الاسكوتلندية والإيرلندية المطالبة بالبقاء في الوحدة الأوروبية ولو أدى ذلك الى إنفصال عن لندن، فإذا أضفنا الى ذلك صعود الحركات القومية والفاشية في بعض الدول الأوروبية، ترتسم معالم صورة مقلقة لمستقبل القارة الأوروبية!