عند مدخل مكتبه، يقف سمير جعجع مطّلعاً على البريد الواصل إلى معراب. على هذا المنوال، "الحكيم" يهتم بالتفاصيل الصغيرة كما بالعناوين الكبيرة. عند نهاية الدرج المؤدي إلى بهو مكتبه، والذي تدرّجه ذات 18 كانون الثاني 2016 إلى جانب ميشال عون، يداً بيد وكتفاً بكتف، يتفحص بعضاً من الكتب التي وصلته حديثاً. يقرأ ملخصاتها ويفرزها لساعة يتاح له فيها العودة إلى المطالعة. بعض الكتب الحديثة، والتقارير الدورية، التي يوليها اهتماماً بارزاً هذه الفترة، عن أحوال الدول وأهوالها. يفضّل في هذه المرحلة قراءة الدوريات الحدثية، الغنية بإشارات وتفاصيل، تساعد باستشراف الأحداث واستقراء التطورات.
مراقبة العراق
كان للتو قد أدلى بموقفه حيال التطورات الداخلية وتعطيل تشكيل الحكومة. يلقي بالمهمة على عاتق رئيسي الجمهورية والحكومة، لأخذ المبادرة وتشكيل حكومة بمن حضر، من دون الرضوخ لرغبة هذا الطرف أو ذاك. فلا شيء يمنعهما من ممارسة صلاحياتهما، أو على الأقل وبأسوأ الأحوال، فليتم تفعيل عمل حكومة تصريف الاعمال، وعقد اجتماعات للضرورة.. لمواكبة المخاطر الاقتصادية والحد من الخسائر. يرفض بالمطلق التنازل والخضوع للشروط.
وبما أن الموقف الداخلي قد أُعلن. فلا بد من الإبحار مع جعجع، في قراءات تاريخية ومقارنة، داخلية وخارجية للأحداث.
يهتمّ مؤخراً بالشأن العراقي، ويعتبر أنه ملف مهمّ جديد وغنيّ، بلد يحوي حوالى ٣٧ مليون نسمة، فيه صحراء ووفرة مياه، مصادر الطاقة هائلة لديه، قطاعه الزراعي ممتاز، والصناعة جيدة ومتقدمة. لا يجب إغفال العراق، وهو أساس في تحولات المنطقة. يربط لبنان بالعراق من خلفية دينية وتاريخية. هناك ارتباط وثيق بحكم التطورات السياسية، وبحكم الوجود الشيعي. العراق من الدول القادرة على إحداث تغييرات في المنطقة. وكذلك المملكة العربية السعودية. يتابع الوضع الأميركي من الداخل عن كثب.
الواقع إلى تغيّر
وفق هذه القراءات كلّها يدخل جعجع إلى اللبنانيات. لبنان انعكاس لكل الصراعات والأحداث في العالم. البعض، حسب جعجع، أبقى على لبنان ورقة في مهبّ الصراعات. ليس على الصعيد الحكومي فقط، بل ضمن جملة ملفات وتطورات. يبقى جعجع على ثباته وإيمانه بدورة التاريخ. مهما كان هناك صعاب "ما بيصحّ إلا الصحيح". هذا يدفعك إلى توجيه سؤال إلى جعجع حول قراءته لرسالة الفاتيكان فيجيب: "هذه الرسالة تصف الوضع حالياً، ولكن ليس بالضرورة أن تنطوي على البعد المستقبلي، ولا يمكن اعتبار أن الوضع سيبقى على ما هو عليه. ويوم ستتغير هذه المعادلة ستتغير الرسالة ومضمونها."
يشير الجواب إلى أن جعجع لا يسلّم بالاستسلام أو التراجع. ومن المبكر الحديث عن انتصار محور على آخر، أو انتصار النظام السوري، الذي لم يبق بقوته ولا بقوة روسيا وإيران وحزب الله. الظروف الدولية هي التي فرضت بقاء النظام، لعدم توافر البديل، ونظراً للاجتياح المتطرف الذي تعرّضت له الثورة السورية، نتيجة سياسات وأخطاء وخطايا. وبالتالي، أحد لم يكن يوافق على استبدال الأسد بداعش أو النصرة. يعتبر جعجع أن هذا الواقع سيؤول إلى التغير، خصوصاً أن نجم الإسلاميين والمتطرفين قد خفت. والإسلام يقف اليوم أمام مرحلة تجديدية وتحديثية وإصلاحية، خارج منطق الأسلمة السلفية أو المتطرفة.
لا خوف ديموغرافياً
يذهب جعجع أبعد من ذلك. يرى أن التغيير آتٍ، وأفول المرحلة السابقة سيؤدي إلى ولادة مفهوم جديد للدول وتعزيز حدودها. زمن الزعامات الامبراطورية ينتهي. الآن هناك ولوج إلى عالم دولتي جديد يقوم على مبدأ الدول القومية. أي سوريا في سوريا. تركيا في تركيا. والسعودية في السعودية. هذا من الناحية العسكرية والميدانية. بمعزل عن العلاقات الاقتصادية وتأثيراتها. ومن هذا المنطلق، لا يخاف جعجع على لبنان الذي يمرّ بمشاكل عديدة. ولا خوف على حدوده أو حدود سايكس بيكو. لا يمكن له أن يذوب في سوريا، ولا يمكن لسوريا الانقضاض عليه. ولذلك لا يؤمن بنظرية تحالف الأقليات، ولا بمسألة توطين اللاجئين أو إحداث تغيير ديمغرافي بشكل رسمي، ووفق خطّة معدّة سابقاً. مشيراً إلى أن هذا التغيير الديمغرافي لن ينجح في النهاية ولن يستمر.
التاريخ والعقوبات
يقرأ في التاريخ والتحولات في منطقة الشرق الأوسط. من السلطنة العثمانية وانهيارها، إلى استعادة تركيا لدورها المحوري في سوريا. وبينهما بعض النتوءات في العلاقات التركية الخليجية، التي لا تنزع عنها لبوس التاريخ، وما يعتريه من ثغرات وخلافات بين الطرفين. الواقع نفسه ينطبق على علاقة الفرس والصفويين بالمنطقة العربية، وتحديداً في العراق وسوريا مثلاً. لا تزال المنطقة تستصعب الخروج من ارتدادات هذه الصراعات وخلافاتها.
لكن المشهد الجديد الذي سيتم ارساؤه في المنطقة، سيكون مبنياً على نتائج الصراع الدائر حالياً، والذي يتجلى مؤخراً بين واشنطن وطهران. لهذا، يعتبر جعجع أن العقوبات على إيران مهمة وليست تفصيلاً، وسيكون لها انعكاس كبير على سياستها في المنطقة. الولايات المتحدة تضغط على إيران للإتيان بها إلى طاولة المفاوضات، وإلزامها بالنقاط الأحد العشر، التي تهرّبت منها يوم وقّعت الاتفاق مع إدارة باراك أوباما. لا يستبعد جعجع أن يزداد الضغط في هذا المجال، ويتطور إلى صراع مسلّح بشكل غير مباشر بين الطرفين، وساحته قد تكون سوريا.
لا يرى الرجل وجود أي بوادر لإتفاق أميركي روسي لإخراج إيران من سوريا، حتى الآن على الأقل. "لو كان هناك تقاطع، لكن ظهر على الأرض، الأميركيون يضغطون على الروس في سبيل ذلك، ولكن لا مؤشرات في الأفق".
تنشيط الحكومة المستقيلة
يرتاح جعجع على الصعيد القواتي. وعلى المستوى الداخلي. أنجز آخر المصالحات مع تيار المردة. قال كلمته فيما يخص تشكيل الحكومة، ولم يعد الخلاف بشأنها يتعلق بوزير بالناقص أو بالزائد، ولا حتى متعلقاً بالثلث المعطل. حزب الله يريد تسجيل النقاط على الحريري، وإضعافه إن لم نقل كسره. لذلك يهتّم جعجع بمتابعة الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، في ضوء التقارير المخيفة. يدعو إلى تفعيل عمل حكومة تصريف الأعمال، ويعلن تكفّل القوات بتقديم مقترحات عاجلة للحد من الانهيار، كطلب ملياري دولار من البنك الدولي كمساعدة عاجلة، تلزيم الكهرباء يحدّ من خسائر تصل إلى ملياري دولار سنوياً، إدخال القطاع الخاص إلى مجال الاتصالات، يوفّر حوالى ٣ مليارات دولار. وأفكار أخرى لا تزال القوات تعمل على بلورتها.
الثقل المسيحي
لدى سؤاله عما إذا كان يندم على انتخاب عون رئيساً للجمهورية؟ يجيب سريعاً بالنفي، يقول إن افضل ما جرى هو انتخاب عون، لتفعيل المؤسسات، وحماية المسيحيين بالرئيس التمثيلي القوي، وبما أنجزت المصالحة القواتية مع التيار الوطني الحرّ. المسألة استراتيجية وليست تفصيلية تقف عند حدود اختلافات آنية وسياسية مصلحية. وهذه ستؤسس إلى ما هو أبعد مستقبلاً لإثبات الثقل والتأثير المسيحيين في المعادلة الداخلية، وهذا لا يمكن تجاوزه مستقبلاً. هل هذا ينطبق على العلاقة مع فرنجية؟ وهل سيكون لها انعكاس رئاسي؟ يجيب بأنه من المبكر جداً هكذا كلام، هناك صفحة وطويت على خير مع المردة، هم في موقعهم ونحن على مواقفنا. العلاقة ستكون جيدة في الإطار الرسمي والمؤسساتي، تماماً كما هي العلاقة مع الرئيس نبيه بري.
لا علاقة مع حزب الله
وماذا عن العلاقة مع حزب الله؟ ولماذا لم تردّ على نصر الله في موقفه الأخير كما كانت ردودك سابقاً؟ يجيب جعجع على طريقته ضاحكاً، لست أوتوماتيكياً، ولا اريد أن أفعل ما يكون متوقعاً. لا علاقة مع حزب الله، وهي محصورة في بعض المؤسسات الرسمية، عدا عن ذلك ليس هناك من غزل، ولا مسايرة، وحين يكون لدينا موقف سياسي نقوله ولا شيء تغيّر. لا يوافق جعجع على مواقف جنبلاط بأن محور إيران والنظام السوري قد انتصر، لكنه يشير إلى استمرار العلاقة الاستراتيجية مع التقدمي، وإلى جانب الرئيس سعد الحريري، الذي ستكون العلاقة معه جيدة جداً في المستقبل، بعيداً عن كل ما قيل في المرحلة السابقة.