بعد 49 يوماً أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب تصويب النقاش وتنظيم الأولويات في الشرق الأوسط، والتي اختلطت بعد جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي، بفعل أعنف حرب إعلامية وسياسية واجهتها دولة كالسعودية.
لم يكن من باب الصدفة أن يفتتح البيت الأبيض في العشرين من نوفمبر (تشرين الثاني)، بيانه عن جريمة خاشقجي بمضبطة اتهام مفصّلة لإيران وأدوارها الإجرامية في الشرق الأوسط والعالم.
تصدَر الاتهامات السبعة لإيران، إشارة البيت الأبيض إلى مسؤولية نظام الخميني عن «حرب دموية تُخاض بالوكالة ضد السعودية في اليمن». في غمرة الهجمة الإعلامية على السعودية تكرر استخدام حرب اليمن كشاهد مفترض «ضد سياسات الرياض في محيطها»، وجرى تغييب الدور الإيراني بشكل مفتعل وسافر، واختراع سياق للحرب هو غير سياقها المعروف الذي بدأ بانقلاب الحوثي متحالفاً مع الراحل علي عبد الله صالح، على كل مرتكزات الحل السياسي السلمي. وما دخلت السعودية الحرب إلا بعد أن احتلت عصابة الحوثي معظم شمال اليمن وتقدمت باتجاه عاصمة جنوبه، عدن، ومينائها الدولي.
ثم ينتقل بيان البيت الأبيض من هذا التصويب اليمني المهم، والذي غاب لنحو خمسين يوماً، إلى الإشارة الحاسمة إلى دور إيران في «زعزعة السعي العراقي الهش للوصول إلى الديمقراطية»، ويكمل باتجاه إنعاش ذاكرة من نسوا أو تناسوا، أن إيران «تدعم (حزب الله) الإرهابي في لبنان»، كما «تدعم بقاء الديكتاتور بشار الأسد في سوريا الذي قتل الملايين من شعبه». ويشير بوضوح إلى «مسؤولية النظام الإيراني عن قتل العديد من الأميركيين وغير الأميركيين من الأبرياء في عموم الشرق الأوسط. ولا يغفل التطرق إلى اللغة الشعاراتية الإيرانية الكاشفة لأدوار النظام وأهدافه»، معتبراً أن «إيران تتبجح بقوة بشعارات الموت لأميركا والموت لإسرائيل»، ليخلص إلى تأكيد أنها «تعد الراعي الأول للإرهاب في العالم».
كل ذلك في فقرة افتتاحية واحدة من 90 كلمة، تتميز بالوضوح الاستراتيجي والشجاعة على قول الأمور كما هي بلا مواربة أو محاباة، وهو ما لم تملك إيران حياله إلا تغريدات ساخرة لوزير خارجيتها محمد جواد ظريف. يتعجب ظريف لا من التهم نفسها، وهي في مجملها «شرف» تدّعيه إيران أو أدواتها علناً، بل يَعجب أن تتصدر الاتهامات هذه بياناً خاصاً بالسعودية. ما يريده ظريف بالطبع هو تأبيد المناخ الإعلامي والسياسي الذي ساد طوال 49 يوماً، بكل نواقصه وسياقاته المبتورة، وبكل تغييبه لإيران وأدوارها، وتركيزه على السعودية، وجريمة خاشقجي.
بيان البيت الأبيض الذي أعاد الأمور إلى نصابها، محدداً المصالح في الشرق الأوسط وموصّفاً الحلفاء والأعداء، ليس بياناً دفاعياً عن السعودية، بل هو بالمعنى الاستراتيجي امتداد طبيعي للشروط الـ12 التي عرضها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، كخريطة طريق لرفع العقوبات عن إيران. نصف هذه الشروط يتصل بالسياسة الإيرانية في المنطقة القائمة على نظرية عبقرية لقاسم سليماني، وهي الدمج بين الميليشيات ومؤسسات الدولة في كل دولة من الدول التي طالها الخراب الإيراني، والتي نموذجها التوأمة القاتلة بين «حزب الله» ومؤسسات الدولة اللبنانية.
هذا تماماً ما فات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الذي دفعته رغبته الحارقة في الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران، إلى التعامي عن السياسات الإيرانية في الشرق الأوسط، فجاء ترمب ليقلب منطق التسوية رأساً على عقب وليقول: إن سياسات إيران الإقليمية هي بخطورة برنامجها النووي ما لم تكن أخطر.
الحقيقة أن إيران لم تدمّر العراق وسوريا واليمن بأسلحة نووية. ولا هيمنت على القرار السياسي في لبنان عبر الطاقة الذرية. تكمن طاقتها التدميرية في عسكرة الانقسامات المذهبية ودفعها إلى أقاصي التناقض الهوياتي، ما يؤدي إلى إضعاف الدول والمؤسسات ويسهّل الهيمنة عليها عبر شراكات قاتلة بين الميليشيات واللاميليشيات. هكذا نجد أن بعض «حزب الله» خارج الدولة وبعضه داخلها. وكذلك حال «الحشد الشعبي» في العراق، وهذا ما سيكون عليه الحال في سوريا واليمن بعد أي تسوية سياسية، والنتيجة مدن مدمَّرة وأوطان من ركام.
هذا تماماً ما ترفضه السعودية ومعها الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر، ولا تكتفي برفضه كلاماً بل تسعى لمواجهته بكل الطرق العملية المتاحة. الأيام الـ49 بين جريمة القنصلية وبيان البيت الأبيض، صبّت كل ما أوتيت لإضعاف هذا القرار بالمواجهة.
هي ليست مواجهة بين مذاهب أو دول فقط، بل بين عقليتين. بين بناة المدن ومدمِّريها.
يقول حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «أتطلع إلى رؤية عشرين دبي في عالمنا العربي»، في الأسبوع نفسه الذي تستضيف فيه أبوظبي سباقات الفورمولا، وفيما يتطلع السعوديون إلى المشروع الجبار على البحر الأحمر «مدينة نيوم»، وتُرفع في مصر المشاريع الضخمة المماثلة على وقع ثروة غازية هائلة يراد استثمارها في ثقافة الحياة.
هنا أصل المعركة في الشرق الأوسط؛ بين الطاقة التدميرية لقاسم سليماني، الذي سيذكره التاريخ أنه أكثر من هدم مدناً في الشرق الأوسط، وبين بناة المدن... والمدن تنتصر دائماً.