من الواضح أنّ الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ هو من صفّ المبدعين الذين يتآنسُ القرّاءُ مع أعماله، وذلك لوضوح خطّه وما يتضمّنهُ من التشويقِ والإنسيابية، هذا فضلاً عن أنَّ ما يُقاربهُ صاحبُ «عالم الأمس» في رواياته لا ينفصلُ عن طوايا الإنسان وخباياه النفسية.
ثيمات نفسية
قد يكون هذا المسلك الأكثر وضوحاً في رواية «أربع وعشرون ساعةً من حياة إمرأةٍ»، و»الخوف»، و»السرّ الحارق» التي نحن بصددها في عمله الأخير الصادر من دار مسكيلياني أخيراً. يوظفُ ثيمات نفسية دون أن يحيد عنها، ويكون الطفلُ إدغار هو البطل إذ يرافقُ أمّه في رحلة إلى منتجع «سيمرينغ»، وهناك يصادفُ جود شخص يرحّبُ بصداقته على رغم وجود فارق في العمر والمكانة الإجتماعية بين الإثنين، غير أنّ إدغار لا يفطن إلى ما يصبو نحوه البارون عبر هذه الصداقة، ولم يتوقع أن يُصبح طعماً يُصطادُ به فريسة أخرى.
يريدُ البارون المنتمي إلى الجذور الأرستقراطية إختصار الطريق إلى الهدف لذا يتواصل مع الطفل بالتودّد مستفسراً إياه عن أفراد أسرته وما يحبهُ، وبذلك يكشفُ أنّ والد الطفل من الإقطاعيين. أكثر من ذلك يلتقطُ ما يطيلُ به الحديث مع إدغار الذي يحبُّ القراءة والبارون بدوره يعده بكلبٍ إسمه دياموند، ومن ثُمَّ يتوصل مما يسمعه من الطفل إلى أنّ العلاقة بين والديه ليست على مايرام. وأنَّ تلك المرأة، التي ما أن لاح طيفها في الفندق حتى تآلف مع المكان وخفَّ لديه الشعور بالضجر، تعاني من الوحدة، لذا أراد إكتساب الوقت والوصول إليها بالسرعة.
التهميش
لا تستمرُّ سعادة إدغار بِمُصاحبة البارون ويُحال إلى الهامش من جديد إذ توصيه الأم بواجباته. إذاً لم تدُم إقامته في عالم الكبار لأنَّ البارون بدأَ بمراقبة ردود أفعال فريسته بعدما صارت المسافة بينمها ضيقةً إذ إستحوذَ على إهتمامها بسرد قصصه عن رحلات الصيد في الهند.هنا يتفاجأُ الطفل البالغ من العمر إثنتى عشرة سنة أنّ الأمَ تحجم دوره وتدفع به بعيداً كأنها تهدف بذلك أن تحل مكانه في الصداقة مع البارون. فعلاً يخلو الفضاء للإثنين ويتسربُ إلى الكلام المتبادل بينهما الغزلُ ونثار الشهوة وذاب الجليد بأنفاس لافحة.يستبطنُ الراوي العليم ما يفور في الأعماق راصداً توتر المرأة ولحظة إنفلاتها قبل الإنسياق إلى التيار والحال هذه فهي تفقدُ إتزانها في التعامل مع الطفل. كما لا يتجاهل الراوي تحسّر البارون على عدم إنجاز مغامرته وإخفاقه في تذوّق ثمرة جموحه. وينعكسُ تبرّمه في إستجابته الباردة لحديث الطفل وتململه في مُصاحبته. يتواطأُ الإثنان على إقصاء إدغار من خلال قيام الطفل تارة بإرساله إلى فندق آخر ليسألهم عما إذا وصل والده الكونت غروندهايم أو برحلة إلى قرية (ماريا شوتس) دون الطفل بحجة ضرورة الإهتمام بالواجبات المدرسية. لكنّ ماينطقُ به الطفل يصعّد حدة التوتر لدى الأم عندما تُسمعهُ بأنّ والده أرسله إلى المُنتجع ليتعافى وليس ليدرس. يلمحُ هذا المسردُ إلى أنّ الإبن يستمدُ سلطة من الأب وهو إمتداد له وفقاً للتقاليد الأرستوقراطية. كلما يتقارب البارونُ من ماتليدا زادت الفجوة بينه وبين الطفل إلى أن إكتشف الأخيرُ إنتهازيّته.
المطاردة
تتوالى وقائع الرواية وفقاً لخط تصاعدي دون اللجوء إلى توظيف تقنية الإسترجاع إلّا فيما يخدمُ الحدث الأساسي ويدعمُ المنحي النفسي في فضاء العملِ كما ترى ذلك الأمر في إستعادة ما كان قائماً بين والد الطفل والخادمة الفرنسية ويفهمُ من سياق السرد أنّ الأخيرة دفعت ثمن نزوات سيدها. طبعاً هذه الومضة تذكّرُ المُتلقي بما توقعه البارون عن الرغبات الكامنة في شخصية المرأةِ وتفسّر أيضاً دوافع والدة إدغار لإقامة العلاقة مع الغريب. ما إنفكّ الطفلُ يطاردُ الإثنين ويتعمّد كدرَ صفو لقائهما.بل يتصرف مع البارون بالعنجهية بعدما يسقطُ القناع من على وجهه. لا يفترُ حماسهُ لكشف السر ويتنقص النظرات المُختلسة بين العشقين. ما يزيد من كراهيته للكبار. لكنّ ذلك لايحجبُ حبه للأم ويحذّرها من شرِ البارون ما يضاعف من قلقها أكثر. لأنَّ ما قاله طفل وجد صدىً في أعماقِها. كل هذا يضفي جوّاً مشحوناً بالتوتر على الرواية إلى أن يُحبس الطفلُ في غرفته لكنّ هذا الإجراء لايمنعه من إقتفاء أثر الإثنين في الغابة حين ينزلُ من النافذة هنا يتخذُ السردُ طابعاً بوليسياً يسمع الهمسات ومطالبة البارون من والدته للمشي نحو ممرّ ضيق يتوهمُ الطفلُ بأنَّ هذا الغريب يحاول أن يقتلَ فريسته وبالتالي يفكر في الإستنجاد وما أن يشعر الخائنان على حدّ قول إدغار بمَن يراقبهما حتى يحثّا الخطى نحو الفندق ويسبقهما الطفلُ إلى هناك. تصل الأحداثُ إلى وضع متأزّم عندما يتلصصُ الإبنُ على محاولات البارون لزجّ المرأةِ في الغرفة حيث ينتهى هذا الوضع بتعارك غير مُتكافئ بين صديقين لدودين. ويرفضُ إدغار طلب أمه للإعتذار من البارون ويثورُ على عالم مُدلس. ويهربُ إلى بيت جدته في بادن بما يمتلكه من كرونات. وهنا تنقلبُ الأمور لصالحه لأنّ السرَّ بحوزته تتوسلُ إليه الأم لتستر على مارأه وأثار غضبه يعطفُ إدغار على ماتيلده ويكتمُ السرَ وهي من جانبها تنذر حياتها للولد. وأنت تصل إلى المقطع الأخير من الرواية تستدعي خاطرك عقدة أوديب لفهم تصرفات الطفل على ضوئها. يُذكر أنَّ هذه الرواية تحوّلت إلى أفلام سينمائية ثلاث مرات.