هل بطُلت الفوائد المرتفعة بلا ضوابط، إغراء كافياً لشراء الدين العام، لزوم تمويل العجز المالي المتفلت من القيود؟ وهل وصلت حال الضيق، التي يعاني الوضع المالي، إلى حد التضارب بين السياستين المالية والنقدية، وحان وقت ترسيم الحدود بين وزارة المال وبين مصرف لبنان؟ السؤال المحوري، هل بقيت الدولة قادرة على إيفاء التزاماتها المالية تجاه الغير، محلياً ودولياً، بمزيد من الدين وتجديد استحقاقات القديم؟ استطراداً، هل استنفد مصرف لبنان السياسات غير التقليدية، والهندسات المالية لجذب العملات الأجنبية الكافية لسياسة تثبيت سعر الصرف؟ أم سيضطر إلى مزيد من طبع العملة التضخمية في بلد يستورد نحو 70 في المئة من حاجات الاستهلاك، ويرزح نحو مليون و200 ألف من مواطنيه تحت خط الفقر؟
أسئلة فيها نصف أجابات بذاتها. ويبقى النصف الآخر الأساس المحبط، لدى منظومة سياسية كاملة ركّبت الدين العام لتمويل زبائنيتها وفسادها، وكرّست سياستيها المالية والنقدية لحراسة نظام اعتقد إنه يملك المزيد من هامش المناورة للذهاب إلى أبعد، بمزيد من الدين والفوائد، وبالقليل النمو وندرة التنمية، وبتطويع الدستور والقوانين وتكييفها لمصالحه النفعية المدمرة.
الإخلال بالمعايير
التضارب بين السياستين المالية والنقدية شأن مألوف، في البلدان الراقية، والدول الصناعية الكبرى. ويؤدي أحياناً إلى استقالة وزير المال أو محافظ المصرف المركزي. السياسة المالية التوسعية تعني المزيد العجز والدين. تتحمل وزره السياسة النقدية، المعنية باستقرار سعر الصرف، ومعدل التضخم، وخلق فرص العمل وأمان القطاع المصرفي. وكل ذلك لا يأتي بعيداً من أهداف السياسات الحكومية الأشمل، المتعلقة بالنمو الاقتصادي، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتزام معايير العجز والدين الدولية المتعارف عليها. الإخلال بتلك المعايير أدى إلى أيام سود مشهورة بعدد أيام الأسبوع. وانتهى بأزمات اقتصادية عالمية ركوداً وبطالة وضيقاً اجتماعياً ومعيشياً. الدول الصناعية عانت أزمات شبيهة، وملحقاتها من الدول النامية والناشئة.
لكن الدول المعنية لديها مؤسسات عميقة تحتكم للدستور والقوانين. حتى اذا استعصت الحلول تستقيل الحكومات أو تقال. تلجأ إلى استفتاء الجمهور على السياسات وسبل الخروج من الأزمات. وتستقدم موعد انتخابات نيابية قبل أوانها. عملياً، تجدد ثقة الشعب بالحكم.
الصبي المعتلّ
أسوا ما نواجهه نحن فقدان اليقين والثقة. حصون الحكم مصونة بتمثيل الطائفة. وحصون الإدارة العامة أيضاً. لبنان مطالب بخطوة أولى على طريق ترميم الثقة بتأليف حكومة لا تؤلف. لمجرد أن مجموعة من النواب يحوزون "نعمة الرضا عن النفس" يريدون الإستيزار! لا الرئيس المكلف قادر على إنجاز المهمة وفق الدستور. ولا رئيس الجمهورية يقول كفى، "أنا سليمان الحكيم الذي تحدثت عنه في حكاية أم الصبي".
"أم الصبي" هي لبنان الآن. لا أحد يملك الجرأة السياسية الوقحة للتنصل من الحال الذي وصل إليها "الصبي". السياستان المالية والنقدية معاً كانتا نتاج المنظومة السياسية. الأولى كانت أداة للانفاق والدين بلا حساب، والثانية كانت المهندس الذي تكفّل باجتراح الأعاجيب! و"الصبي" بات معتلاً بلا أب ولا أم. التنصل من المسؤوليات، أو رميها على طرف من دون الآخر سخرية وإفك. وصف تقرير المصرف الدولي الأخير الموازنة بأنها تفتقر إلى المرونة، لكونها محكومة بنفقات جارية (رواتب وفوائد ديون وكهرباء) بنحو 70 في المئة، لا تستبقي للنمو شيئاً يذكر. بعدها أنفقنا حتى احتياط الموازنة. معنى ذلك لا نملك مالاً لإطفاء حريق طارئ أو كارثة طبيعية. الاقتصاديون يصفون السياسة المالية الحصيفة بتلك التي تحتفظ بحيز مالي مريح، لو رغبت في زيادة عجز موازنتها بصفة موقتة، لغاية خطط المشاريع والتنمية ونمو الاقتصاد. إنما من دون التأثير على نفاذها إلى الأسواق. أو بقاء مديونيتها في حدود يمكن تحملها.
سياسة المصرف المركزي
نحن أنفقنا على الحسابات الجارية بلا نمو ولا تنمية ولا مشاريع. الزبائنية السياسية تقتضي ذلك. فجاءت التكلفة السالبة مزدوجة. بل ومثلثة ومخمسة بلا خدمات حياتية ومرافق بنية تحتية. وإذ تم تجاهل مخاطر الفجوات المالية، واحتمالات تراجع القدرة على النفاذ إلى أسواق المال، مع فقدان اليقين السياسي بقدرة الدولة على إعمال مؤسساتها السيادية والشرعية، بعد استنفاد كل إغراءات شراء الوقت بمزيد من الفوائد والدين، اهتزت جودة الدولة الإئتمانية والسياسية معاً. وبتنا عاجزين حتى عن تقبل قروض ميسرة ومساعدات من مؤتمرات، ترعاها دول لا تزال تعتقد بأن لبنان قادر على تجاوز أوضاعه، لو أحسن صنعاً سياسياً وإصلاحاً. والحيز المالي بالعجز تحقيقاً لأهداف اقتصادية، يفترض تحديد إطار للدين العام ومساره، والتزام نفقات الموازنات، وفاعلية السياسة المالية وأصول الدين المتاحة للاستثمار في الاقتصاد الحقيقي. لا نملك واحداً من العناصر المذكورة. السياسة المالية هذه صنيعة مجالس الوزراء ومجالس النواب. والمنظومة السياسية بأكملها.
السياسة النقدية ثالثة الأثافي. لا يستقيم قِدر الموقد من دونها. هي التي مدّت موقِد الدين والفوائد بالطاقة لدوام مأدبة الدين. سنكرر ونؤكد تكراراً، أن استقرار سعر الصرف من الفضائل في وضع سياسي وأمني غير مستقر كوضعنا. لكن الدفاع عن تثبيت سعر الصرف في هذه الحال صعب ومشكوك فيه لأجل طويل، ما لم تتراجع عوامل عدم الاستقرار. وبعد أن بدأت التدفقات النقدية بالنضوب، وميزان المدفوعات بالعجز، والنمو بالتراجع منذ 2011.. الاستمرار في شراء احتياط نقدي، وموجودات العملات الأجنبية العائدة للمصارف، من خلال توظيفاتها في مصرف لبنان، بدعوى استقرار سعر الصرف، وبتكلفة فوائد باهظة، لا يمكن فصله عن السياسة المالية والهوّة المالية التي نقترب منها. وإذ يدرك مصرف لبنان الارتباط العضوي بين العجز المالي وبين الضغوط النقدية أكثر من غيره، كان عليه أن يضع حداً لدوره في تمويل العجز المالي، ويربطه بشرط التزام نفقات الموازنات. وموازنة 2018 حداً أدنى. ويحمل السلطات مسؤولية أي تجاوز، تحت طائلة استقالة حاكم مصرف لبنان ونوابه. لم يحصل ذلك، واستمر مصرف لبنان وكيل الدين من الباطن تارة ومهندسه طوراً. لا يمكن "قسمة الصبي" نصفين مالي ونقدي. و"سليمان الحكيم السياسي لم يحزم أمره بعد".
عصام الجردي****