وفي العام الخامس والسبعين، كان الاستقلال حقيقياً أكثر من أي وقت مضى، وأعمق من أن ينكره أي لبناني، بداعي الغضب مما آلت إليه أحوال الجمهورية، أو بداعي الحنين الى الانتداب الفرنسي، الذي لن يعود مهما كانت درجة التوسل والاستجداء.
العيد بحد ذاته كان وسيبقى إشكالياً. لم يكن إستقلالاً بالمعنى الحرفي. كان بمثابة إعلان قيام جمهورية، بعد 23 سنة على إعلان الدولة. التضحيات كانت بسيطة جداً، أشبه بمزحة، بالمقارنة مع التضحيات والنضالات التي خاضتها مختلف الطوائف والجماعات اللبنانية على مدى الاعوام ال75 للتنصل من تلك الجمهورية والتعبير (المسلح) عن ضيقها بالحدود الجغرافية- السياسية، التي رسمها الفرنسيون، وحاول البريطانيون إختراقها، قبل أن يصرفوا النظر عن المشروع اللبناني (وحتى السوري) وجدواه، غير آسفين.
الاستقلال حقيقي الآن أكثر مما كان في ذلك الزمن الذي ولدت فيه الجمهورية من رحم ذلك الصراع الفرنسي البريطاني، الذي لو إنتصر فيه الانكليز يومها، أو بالأحرى لو قاتلوا فيه بجدية، لكان لبنان يعيش اليوم في ظل نظام ملكي دستوري، ربما. وثمة من يزعم أنه لو عثر العرش البريطاني في حينه على سلالة ملكية لبنانية واحدة، وليس سلالات متعددة ومتناحرة، لما كان لبنان الآن خارج مجموعة الكومنولث.
الاستقلال حقيقي الآن أكثر مما كان في زمن التدخل الأميركي الأول في نهاية الخمسينات والثاني في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وأكثر مما كان في زمن التدخل الفلسطيني في تلك الحقبة بالتحديد، ولا في زمن التدخل السوري الذي ورث الفلسطينيين واحتكر الإرث اللبناني ردحاً طويلاً من الزمن، شهد أكثر من محاولة إختراق إسرائيلية، لكنه لم يتعرض للتحدي إلا في مطلع القرن الحالي، وبعدما ساء سلوكه وفسد أسلوبه، وزاد عنفاً.
منذ ذلك الوقت، لم يشهد لبنان أي تدخل خارجي جدي، برغم التوسلات اللبنانية التقليدية. النفوذ الإيراني الذي ورث سوريا ما زال يعبّر عن نفسه بطريقة تحول دون مقارنته مع التدخلات العربية والأجنبية الماضية. لإيران وحدات عسكرية وأمنية في لبنان، من الحرس الثوري والباسيج، لكنها لا تقارن بالوجود العسكري والأمني السوري أو الفلسطيني أو حتى الأميركي والفرنسي، أو طبعا الإسرائيلي في فترات الاحتلال المباشر للأراضي اللبنانية.
لكن إيران التي تكرر التجربة الفلسطينية والسورية في التعامل مع لبنان بوصفه جبهة متقدمة للقتال والتفاوض مع العدو الاسرائيلي، أو الأميركي، تعتمد على جيش لبناني رديف، يكاد يعادل بقوته الجيش اللبناني الرسمي، تحرص على عدم تكرار الاسلوب الفلسطيني أو السوري، وتنتدب "لجيشها الخاص" مهمة تدبير شؤون السياسة اللبنانية وتصعيد دوره فيها..من دون أن تظهر طهران كمحجة للبنانيين مثلما كانت دمشق أو باريس أو واشنطن في زمن مضى.
وهذا النوع من "التساهل" الإيراني ناجم عن ثقة مفرطة بالنفس، وبضعف الخصم، كما هو ناتج عن إقرار إيراني ضمني بأن هامش التدخل المطلوب في الشأن اللبناني ضيق، وذلك لإعتبارات داخلية، لا يمكن تخطيها، فضلا عن تسليم إيراني علني بأن للعرب والأميركيين والفرنسيين حصصاً لبنانية لا يستهان بها، وأدواراً لا يمكن إستبدالها.. وهو ما لا يسمح لإيران ولا لحلفائها اللبنانيين أن ينسخوا تجربة اليمن الأخيرة في لبنان، على سبيل المثال، ولا أن يمسوا المؤسستين اللبنانيتين الوحيدتين اللتين تختزلان الاستقلال الوطني في حالته الراهنة، وهما الجيش والمصرف المركزي.
نظم الجيش عرضاً عسكرياً في العيد، وربما كان يجب أن ينظم المصرف المركزي عرضاً نقدياً، يسد الفراغ الممتد منذ قيام الجمهورية التي لا تزال تجد صعوبة في تأريخ الاستقلال، بل وفي كتابة سيرة رجالاته، وما فعلوه بتلك الجمهورية منذ أن رفعوا العلم في وجه فرنسا وحتى اليوم.
الاستقلال أصبح ناجزاً فعلاً، لكنه يمكن أن يضيع في أي لحظة.