ففي المنطقة ملفان مفتوحان على كل الاحتمالات وهما الملفان السعودي والاسرائيلي. ولهذين الملفّين علاقة وثيقة بالساحة اللبنانية وتأثير مباشر في مسار الاحداث.
ذلك انّ السؤال الأساس المطروح سعودياً: هل هنالك جدّية في إحداث تغييرات اساسية على مستوى القيادة السعودية؟ أو بالتالي ما هو مصير وليّ العهد الامير محمد بن سلمان؟
كثيرة هي القوى التي تطمح لإزاحة الأمير محمد بن سلمان وبالتالي لإدخال السعودية في مرحلة من الإنفكاء الداخلي. وحده الرئيس الاميركي دونالد ترامب يكافح لعدم الوصول الى هذه المرحلة، أولاً لأنّ صهره ومستشاره الاقرب جاريد كوشنر ستطاوله لاحقاً سهام المحاسبة نتيجة علاقته الوثيقة بوليّ العهد السعودي، وهو ما سيرتب انعكاسات سلبية على ترامب في الشارع الاميركي على مسافة اقل من سنتين لانتخابات التجديد له لولاية ثانية.
وثانياً لأنّ مشروعه في الشرق الاوسط يرتكز بشكل اساسي على السعودية من خلال وليّ العهد وعلى اسرائيل من خلال حكومة بنيامين نتنياهو.
وليس مألوفاً أن يضطر رئيس الولايات المتحدة الاميركية وبعد نشر تقرير المخابرات المركزية الاميركية للقول خلال جلسة مع مستشاريه إنّ قضية قتل الخاشقجي أصبحت أكبر من حجمها وأثارت الرأي العام الدولي بنحو لا يستأهل كل هذا الضجيج الإعلامي. بالتأكيد لن يستسيغ الشارع الاميركي هذا النوع من الحديث.
ترامب ولو أنه لمّح للمرة الاولى باحتمال معرفة الامير محمد بن سلمان المسبقة بالجريمة، إلّا أنه ما زال يأمل في ابتداع مخرج إنقاذي ما وعلى اساس أنّ تقرير الـ CIA لم يقدّم نتيجة نهائية وحاسمة للمعلومات التي جُمعت.
لكنّ مأزق الرئيس الاميركي يزداد داخل ادارته خصوصاً وانّ مسلسل الاستقالات توالى مع خروج رئيسة قسم الخليج في مجلس الامن القومي على خلفية الاعتراض على سياسة البيت الابيض حول ملف الخاشقجي، اضف الى ذلك الخلاف الصامت الدائر بين ترامب ونائبه مايكل بنس على رغم النفي الإعلامي له.
ويدرك الرئيس الاميركي أنّ تركيا الطامحة لوراثة النفوذ السعودي في المنطقة وهي اولوية مطلقة للرئيس التركي وفريقه، تبقى صاحبة التأثير الاقوى في قضية الخاشقجي كونها تملك كل الاوراق القوية وتتبع سياسة رمي المفاجآت في الإعلام درجة درجة لإبقاء هذه القضية حيّة ولإنهاك الجبهة السعودية.
في أيّ حال فإنّ الانشغال السعودي كافٍ وحده لوضع مشاريع ترامب في الشرق الاوسط جانباً.
إلّا انّ الطامة الكبرى هي في الواقع المعقد الذي دخلت فيه إسرائيل. صحيح انّ بنيامين نتنياهو نجح في إنقاذ حكومته، ولكن بأيِّ ثمن؟
فالائتلاف الحكومي أصبح ضيّقاً جداً مع 61 نائباً مقابل 59، والأخطر أنه ائتلاف هش يقوم على الابتزاز الدائم والمقايضات المفتوحة.
ذلك انّ قبول نفتالي بينيت البقاء داخل الحكومة وإنقاذها من السقوط، ولو موقتاً، انما حصل حتماً على قاعدة «رشوة» ما دفعها نتنياهو لبينيت اليميني المتطرف، ذلك انّ نتنياهو يدرك انّ صورته تضرّرت كثيراً في الشارع الاسرائيلي إثر المواجهة الفاشلة في غزة واضطراره الى وقف اطلاق النار ما يدفعه الى عدم الدخول في انتخابات وفق هذه الاجواء، بل بعد تحقيق إنجاز أمني يلهب حماسة الشارع الاسرائيلي وهذا بالضبط ما يطلبه بينيت الذي يرتكزعلى سياسة متطرّفة في الاساس.
وهو ما يعني انّ الركيزة الثانية لمشروع ترامب اصبحت في اتّجاهٍ آخر. فمناخ الحكومة الاسرائيلية اصبح مختلفاً، اضف الى ذلك انّ حكومة بغالبية ضئيلة لا يمكن الرهان عليها لإمرار تسوية «صفقة القرن» فهي تصبح معرّضة للسقوط عند كل خطوة، ولو انّ نتنياهو يتمهّل ليُصدر الرفض عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس ليتجنّب غضب البيت الابيض.
لكنّ المهم انّ هذه الحكومة الاسرائيلية اصبحت خطرة وهي تفتش عن نقاط عسكرية أو امنية لتسجّلها ضد حركة «حماس» أو ربما ضد «حزب الله» على الساحتين اللبنانية والسورية.
وبرزت خلال الساعات الماضية مؤشرات إسرائيلية الى اغتيال رموز من «حماس» ابرزهم على الاطلاق يحيى السنوار رئيس «حماس» في قطاع غزة والذي اعتمد اسلوب «حزب الله» خلال المواجهات الأخيرة. ووردت تهديدات اسرائيلية بأنّ «أيامه باتت معدودة».
ففي خطاب النصر تحدّث السنوار بسقفٍ عالٍ أوحى أنّ التسوية بين إسرائيل وحركة «حماس» ما تزال بعيدة جداً.
وفي هذا الوقت تفقّد رئيس الأركان الاسرائيلي آيزنكوت الجولان، مشيراً الى أنّ إسرائيل ستواصل العمل لمنع ايران من التمركز في سوريا. وهو بكلامه يشير ضمناً الى نيّة القيام بعمل عسكري قريب ومحدود.
وتذهب النيات الاسرائيلية الى أبعد من ذلك. ففيما يحاول نتنياهو التخلص من «صفقة القرن» ولو من خلال رفض محمود عباس، فإنه يعمل ايضاً على إحباط تنفيذ «الناتو العربي». ذلك انّ اسرائيل تخشى من أن يؤدّي ذلك الى انتفاء الدور الاسرائيلي الاقليمي، والوظيفة التي طالما تولّتها والقاضية بتزعُّم المحور العربي المواجه لإيران وأن تتولّى هي دور المواجهة العملانية.
فبعد الدول العربية التي زارها نتنياهو يتصاعد الكلام حول زيارة جديدة للبحرين وهو سيسعى هذه المرة لفتح مكاتب ديبلوماسية بين البلدين.
في المقابل لا تبدو واشنطن على تقاطع كامل مع طموحات تل أبيب. هي تريد فعلياً تشكيل «الناتو» العربي ليتولّى مهمات عملية في سوريا.
وتسعى لتشديد الخناق الاقتصادي على ايران لكن وفق مسارٍ حذر وحدود لن تتجاوزها. وتعمل الادارة الاميركية مثلاً على تغذية الخلافات والشقاق بين شيعة العراق وايران وهو ما أعطى نتائج مؤاتية ظهرت خلال الانتخابات العراقية الاخيرة.
وأخيراً عزّزت واشنطن حضورها العسكري في كل من العراق وسوريا ولم تعلن عن ذلك كما درجت العادة. وهذه القوات تعمل على احتواء النفوذ الإيراني والحدّ من توسّعه، ومتابعة كل الجوانب المتعلقة بالأمن الاميركي، اضافة الى منع روسيا من التفرّد على الساحة والحدّ من تمدّد نفوذها.
ولكن لهذه العناصر التي تمتلك خبرات أمنية، مهمة مراقبة، وربما ادارة الخلايا المتبقّية من «داعش» ووفق التقارير فإنّ زهاء تسعة آلاف عنصر أتوا من دول الإتحاد السوفياتي سابقاً الى صفوف «داعش» ومن بين هؤلاء نحو اربعة آلاف جاؤوا من روسيا. ما يعني فرصاً كبيرة للتأثير في الداخل الروسي عندما يحين أوان توجيه الرسائل.
كل هذه الصورة يتأثر بها لبنان مباشرة. وهنالك مَن يحتسب في الحكومة على اساس الرهان على الوقت وتوجّه واشنطن وتل ابيب لتوجيه صفعات وتشديد الخناق على ايران و»حزب الله» ما يؤدّي الى خريطة حكومية ملائمة.
وهنالك ايضاً مَن يحتسب بطريقة معاكسة وعلى أساس أنّ تضعضعَ المحور المواجه لإيران وانشغاله سيدفع بالفريق اللبناني المتحالف معه للقبول بأثمان أكبر ممّا هو مطروح اليوم.
ولكنّ الأهم انّ الدول الغربية ولا سيما منها فرنسا باشرت توجيه رسائل التحذير من التلكّؤ في إنجاز الحكومة، وانّ «سيدر» سيدخل الخطر قبل نهاية السنة، ومعه سيزداد الخطر المالي والاقتصادي في لبنان حيث ستصبح الامور في مسارٍ مختلف كل الاختلاف.