لا يمكن أن تمرَّ مناسبة كعيدِ استقلالِ لبنان إلّا ونتذكّر شخصيّة سياسيّة لعبت دوراً مهماً في تلك المرحلة والمراحل اللاحقة وطبعت صورتها في أذهان الناس كرجل دولة لائق وأنيق واستقلاليّ بالدرجة الأولى.
 

 في الإستقلال، تكثر الكلماتُ الشاعرية ويحضر المواطن حفلات التبجيل والتفخيم والتعظيم، لكن فات الجميع أنّ الاستقلالَ لا يُختصر بيوم واحد، بل إنّه مسارٌ كامل متكامل، فلا يوجد بلد مستقلّ من دون مقوّماتٍ إستقلاليّة.

ولعلّ من أبرز الشخصيات التي مرّت في تلك الحقبة الرئيس كميل شمعون الذي دخل إسمُه في سجلّ الرجال الذين رفضوا كل الإمتيازات التي منحتها فرنسا لفئة معيّنة من اللبنانيين، وأبوا إلّا أن يعيشوا أحراراً في بلدٍ يعلمون جيداً أنّ مقوّماته متواضعة.

كان الرئيس شمعون رجلاً إستثنائياً، ويُعتبر دورُه في مرحلة ما بعد الإستقلال أهمّ بكثير من زمن المعركة مع فرنسا، ولا يستطيع أحدٌ ممّن عايشه إلّا أن يقول إنه رجلٌ جمع التناقضات ولا يستطيع أحدٌ تعييرَه بشيء. فمِن "فتى العروبة الأغرّ" الى الحليف الاول للغرب وأحد أهم مهندسي "حلف بغداد"، ومِن رئاسة الجمهورية الى رئيس "الجبهة اللبنانية" التي وقفت في وجه التمدّد الفلسطيني.

في رحلةِ وطنِ الأرز الطويلة في البحث عن الاستقلال، بنى شمعون التطوّر، فعرف لبنان في عهده الرخاءَ والإزدهار، حتى أُطلق عليه لقب "سويسرا الشرق"، فأتى الرئيس فؤاد شهاب من بعده لينظّمَ هذه الفورة التقدّمية في الإقتصاد والإعمار.

مهما بلغ رجالاتُ لبنان من قوّة وعظمة، تبقى بلاد الأرز معرّضةً للرياح الإقليمية والدوليّة، فكانت عاصفة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وبعدها عصفت رياح العمل الفدائي الفلسطيني وخصوصاً بعد هزيمة العرب في حرب 1967، من ثمّ أتى الرئيس حافظ الأسد الى الحكم في سوريا، تلك مراحل شمعون كان يقف فيها للمتربّصين باستقلال لبنان بالمرصاد.

لا ينكر أحد أنّ للرئيس أخطاءه، خصوصاً النزعة نحو السلطة، لكن مهما ارتفع منسوبُ تلك النزعة، كانت الوطنية تغلب دائماً، ففي تلك المرحلة، وخصوصاً مرحلة ما بعد الإستقلال حتى تاريخ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، لم يكن الفسادُ مستشرياً مثلما هو عليه يومَنا هذا، ولم تكن البلاد تغرق في الفوضى، وما عاش الشعبُ على العتمة ووسط المجارير وأكوام النفايات.

مَن يقارن لبنان في عهد شمعون ويومِنا هذا، يدرك جيداً مدى الانحطاط الذي وصلنا إليه، إنحطاطٌ ما بعده إنحطاط، وبعد 60 عاماً على انتهاء ولاية الرئيس الذي أُطلق عليه "فخامة الملك" تراجع لبنان الى الوراء، فلم يعد مصيفَ العرب ومستشفاهم ومدارسهم، بل بات العربيُّ يحسب ألفَ حساب للمجيء الى لبنان.
حلمُ الدولة القوية يتبدّد على أعتاب زعماء الطوائف والميليشيات المسلّحة وغير المسلّحة، كذلك فإنّ لبنان على شفير الإنهيار الإقتصادي، بينما كان ينعم في تلك المرحلة بالبحبوحة والرخاء والإزدهار ويحلم شعبُه بالسير نحو الأفضل.

وأهمّ من كل تلك النقاط يبقى الإستقلالُ الفعليّ غيرَ منجز، وفكرةُ الإستقلالية اللبنانية ما تزال بعيدة المنال، فمَن توجد لقمتُه في يد غيره لا يعرف معنى التحرّر.

وأما سفراء الدول في عصرنا هذا فيتحكّمون باللعبة السياسية، في حين أنّ شمعون كان يتعاطى مع رؤساء الدول الكبرى من الندّ الى الندّ، لا بل إنه كان يخطّط ويرسم سياساتٍ إقليمية.

كل تلك العوامل تدفع اللبناني جدّياً للنظر الى واقعه جيداً والتحديق به، ليكتشف أين كان آباؤه وأجدادُه وأين أصبح هو، فيما الترحّمُ على عهد شمعون لم يعد ينفع، وبالتالي فإنّ الوطن ينتظر الإنقاذ من شعبه قبل مسؤوليه الذين جرّبوا وأوصلوه الى الخراب.