الخيانة والغدر والطمع والتشويش والاستغلال صفات بشرية يطبّقها دوغار بكل تفاصيلها الصغيرة في روايته وكأنه يريدنا أن نرى الوجه الدميم الطاعن في الألم لفرنسا في حكايات إنسانية، لم يأتِ وهجُها قويّاً نافذاً للقلوب، بل تحامل على نفسه معتمداً على عصا المترجم التي وبهيكلها الهش، ساهمت في تكثيف الغشاوة التي سادت سماء الرواية المتلبّدة بالغيوم فلم نفقه من التأويل شيئاً.
الرواية صدرت عن الدار المصرية اللبنانية، ولم تقدّم إبداع الكاتب كما يجب وكما أراد، فتشكلت بشكلٍ استعراضي بحت، لا مغزى له ولا تهيّؤات فلسفية أو توقعات حدثية، السرد مكثف ومتوتر من الحشو الرتيب للإيقاع الباطني للشخوص.
مارتن دوغار يُعتبر من الكتّاب القديرين الذين أجادوا اللعب بالتصويرات الإنعكاسية لظلال الإنسان وحتى الأشياء، وغالباً ما يأتي وصفُه جريئاً مقحماً نفسه في مهبّ العواصف المعقّدة التي قد تحيق بالحبكة في عزّ تصاعدها، ولكنّ ترجمة روايته هذه لم تستطع أن تلبّي مقاصده الحقيقية في كتابتها، فكان التناغم غير متجانس للحدث التصاعدي.
فطوراً نشهد الخيانة في أقبح صورها، ثم البساطة والإخلاص والعفو في ثوبٍ رثٍّ مهمّش، ومن بعدها نبصر التجنّي الطبيعي والتصارع في نفوس بعض البشر الذين يحاولون استغلال مورد امرأة عجوز بحجة الإعتناء بها، والتمادي في الغيّ والظلم في منزل آخر إلى ما هنالك.. مع نقدٍ للشعب الذي يدخل الكنيسة متوارياً وراء أصابع آثامه بكلّ ورع ولسبب غير واضح.
من الواضح بأنّ للروائي دوغار مقاصد سياسية متوارية وراء سرد روايته، لم تستطع الترجمة أن تبعثها حيّة أو تسلّط الضوء عليها، وهنا يأتي دور المترجم الذي يترتّب عليه أن يتقمّص قلم الكاتب ليستخرج ضوء المعاني من حروفه، لا أن ينقلها كما ترد بالظبط وكأنّه يقرأ كلماته معكوسة، لأنّ العبارات عندما تنتقل من لغة إلى أخرى كما نعلم، تحتاج إلى تدوير وتبسيط وزخرفة ممنهجة.
ساعي البريد كان النقطة الأساسية التي تتشكّل من وسطها دائرة العقد، فهو المنقذ والصديق والزوج والعشيق والمحرّض على الرذيلة، والممهّد للفضيلة، والمتسكّع في البيوت بلا حرج، وكأنّه بشخصه الوجه الآخر لفرنسا.. الذي لم يره أحد من قبل إلّا الكاتب الذي يسبر غور النفوس ويرصد تحوّلاتها ليختصر فيها حكاية شعب.
ودوغار قد ولد في فرنسا لعائلة تخصّص معظم أفرادها في مهنة المحاماة، وفي روايته نرصد أنفاس تأثره ببيئته، من خلال رصده للمخالفات القانونية أو تشريعها.
خلاصة القول، رواية "فرنسا العجوز" ضحية ترجمة عبثية، همّشت من أصالتها ومغزاها وتحديدها للمفاصل المهمة من تاريخ بلادٍ بأسره، وعندما نطالعها بلغتها الحقيقية نشتفّ منها نسيم أغلال القمح التعبيري السائح في الإشراق الضوئي، ولم نطلب بأن تأتي الترجمة مطابقة، فاللغة تغيّر عادة بالقليل من التصويب والتعبير، ولكنّ التقارب التقريبي وليس التطابقي لا غنى عنه.