مع هذا الترسيم، إلتزم الطرفان كلّ بسقفه العالي، وقطعا أمام جمهورهما أولاً، كما أمام الواقع السياسي الداخلي بشكل عام، أي احتمال لتراجع أيّ منهما أمام الطرف الآخر، فالمسألة صارت مسألة هيبة ومعنويات.
معظم الطاقم السياسي لم يكن يتوقع ان تبلغ الأزمة هذا الحد من التأزم والتحدي، البعض صَوّر المشهد على أنه «معركة تكسير رؤوس»، أمّا البعض الآخر فانتابه القلق من انحدار الوضع الى الأسوأ، فكان لا بد من حركة ما لاحتوائها.
هاتف عين التينة تحرّك في اتجاه أطراف الازمة الاخيرة، الغاية الأساس كانت تبريد الخطاب، خصوصاً انه بدأ يأخذ منحى طائفياً ومذهبياً، ولقد نجح الكلام الهاتفي في إطفاء فتائل التصعيد.
رئيس الجمهورية، الذي كان قد تبّنى قبل ذلك، وجهة نظر الرئيس المكلف، واضح أنّه لم يكن في ذهنه انّ الأمور ستنزلق الى هذا الحد بين حليفه الاستراتيجي «حزب الله» وبين شريكه في الحكم الحريري، وقطع الطريق على ولادة الحكومة، ولا حكومة يعني مزيداً من التعطّل لعهد انتخبَ رئيسه قبل سنتين.
ويعترف، حتى القيّمون عليه قبل غيرهم، انه لم ينطلق بعد كما يجب. مع هذا الانزلاق، وجدت الرئاسة نفسها مضطرة لأن تعود الى نقطة الوسط بين المنطقين.
مع تمركز الرئاسة في نقطة الوسط هذه، بَدا انّ ساعة التفكير بالبحث الرئاسي عن حلّ قد دقّت، وتَبدّل التوصيف من «عقدة سنية - شيعية»، وهو التوصيف الذي أزعج الحلفاء والبعض منهم اعتبره مسيئاً وغير مبرّر، الى «عقدة وطنية».
ومع هذا التبدّل خرج من إحدى الغرف السياسية طرح يقول إنّ الحل اولاً واخيراً هو في يد رئيس الجمهورية، بأن يبادر الى صياغة مخرج لعقدة تمثيل «سنّة 8 آذار»، من قلب «الحصة الرئاسية».
الّا انّ الرئيس لم يُبدِ اعتراضاً علنياً على هذا الطرح، لكنه في الوقت نفسه لم يقدّم ما يؤشّر الى موافقة لا شكلية ولا جوهرية على الحل المقترح. فبدلَ الموافقة بادرَ في اتجاه آخر، وكلّف الوزير باسيل القيام بحركة مشاورات مع القوى السياسية. وهذا التكليف لباسيل أدرَجه البعض في خانة الرفض المقنّع للحل السنّي على حساب الحصة الرئاسية.
وعلى الرغم من إيجابية هذه الحركة في الشكل، لناحية ما قد تساهم فيه في تبريد الاجواء وتخفيف التشنّج، إلّا انّ إمكانية بلوغها الحل المَرجو منها، كانت محل تشكيك من قبل مختلف القوى، اذ انّ هذه الحركة تدور في مكان، أمّا الحل الجدي والجذري فيقع في مكان آخر. وهنا كان اللقاء مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي سعى باسيل الى جعله مُنطلقاً لرسم خريطة طريق الى حل عقدة تمثيل «سنّة 8 آذار».
لدى الرئيس بري شعار ضمني يقتدي به في الازمات والمحطات الحساسة يقول «إنّ أقرب مسافة الى الهدف هي أن تذهب إليه مباشرة، ومن دون «أكواع» او مطبّات او تعرّجات».
ومن هنا، طرح أمام باسيل طريقاً الى الحل، ومفاده «انّ السيّد حسن نصرالله قال ما قال في خطابه وألزمَ نفسه بسقف عال (دعم موقف نواب سنّة 8 آذار)، وواضح انه لن يتراجع عنه. وكذلك الرئيس المكلف قال ما قاله في مؤتمره الصحافي، وألزم نفسه بسقف عال واضح ايضاً انه لن يتراجع عنه، لذلك هناك مقعد سنّي عندكم، يمكن إيجاد الحل من خلاله، وتوزير أحد نواب اللقاء التشاوري، فتحلّ المشكلة».
طبيعي أن يأمل بري في ان يُصار الى الأخذ في هذا الطرح الاقرب والموجود في اليد، والذي يمكن اعتباره «نصيحة ثانية» يقدمها رئيس المجلس على خط التأليف، بعد النصحية الأولى التي أسداها للحريري قبل اكثر من 5 أشهر ونصف، بتوسيع بيكار التمثيل وتوسيع عباءته لتشمل توزير «سنّة 8 آذار» في الحكومة.
يقول بري: إمكانية الحل موجودة، والمهم ان تصدق النوايا، وأنا شخصيّاً منذ اليوم الاول لاستشارات الرئيس المكلّف التقيتُ به من خلال هذه الروحية. وسبق لي أن بادرتُ في محطات حكومية سابقة الى أن أقترح حلاً «من كيسي»، بهدف تسهيل تشكيل الحكومة.
ومن هذه الروحية توجّهتُ الى الرئيس المكلف قائلاً: أسمعُ كلاماً كثيراً وأقرأ في الجرائد تحليلات وتفسيرات ومطالب وشروطاً، هذا يريد 4 وزارات وذاك يريد 5... واذا كنتُ شخصياً سأعتمد معيارهم هذا، فأمام مَن يُطالب بـ5 وزرات، أنا شخصياً، وبمعزل عن «حزب الله»، «بيطلَعلي» وحدي 6 وزارات.
فأنا أقول لك نيابة عنّي وعن «الحزب»: لا يريد أحدنا لا 4 وزارات ولا 5، ما نريده هو أن نبقى كما كنّا في الحكومة السابقة لا اكثر ولا أقل، أي 3 وزراء لكل منّا. كنّا وقتها في شهر رمضان الكريم، وانطلقتُ في طرحي هذا من انّ الحكومة، اذا ما «مشيت الامور» كما نريدها، تُولَد قبل عيد الفطر السعيد.
وكان الحريري متجاوباً، وبَتّيتُ معه حقيبتين فقط، هما المال لحركة «أمل» والصحة لـ«حزب الله»، وحتى الآن لا نعرف سائر الحقائب التي ستُعطى لنا، وحتى الآن أيضاً لا «حزب الله» قدّم أسماء وزرائه، ولا أنا شخصياً قدّمتُ أسماء. وطرحتُ على الحريري في هذا اللقاء فكرة توزير نوّاب «سنّة 8 آذار».
ويشير بري الى اننا من يومها سَكتنا، ولم يصدر عنّا سوى كلام تحفيزي للتعجيل بتأليف الحكومة. ومن جهتي اشتغلتُ شخصياً على خط عقدة التمثيل الدرزي، وحتى انني شاركتُ في جهود حلّ عقدة تمثيل «القوات اللبنانية». طالبوا بداية بـ5 وزراء ورفض هذا الطلب، وعرض عليهم 4، وأنا شخصياً كنت أحثّهم على قبول ذلك، وقلت لهم: «إقبلوا، وأنا اقول لكم ذلك خلافاً لمصلحتي، لأنني اذا أردتُ أن أطبّق القاعدة التي تعتمدونها في التمثيل، أنا «بيطلَعلي» 4 وزراء ونص، لكننا نريد ان تتشكّل الحكومة، فاقبلوا بـ4 واتّكلوا على الله».
هل يمكن أن تضحّي من جديد؟ يجيب بري: أنا أصلاً مضَحّي وعامل تقدمِة، فشو المطلوب منّي بعد؟
لكن ما لفتَ الانتباه في الايام الاخيرة، هو مبادرة بعض المطابخ الى رَمي طرح لحل العقدة السنية، بَدا فيه أصحابه يتبرعون من كيس بري من دون علمه. ويقوم الطرح على تَخلّي بري عن وزير شيعي، مُستبدلاً إيّاه بأحد نواب «سنّة 8 آذار».
بعض القنوات القريبة من بعض المراجع السياسية، حملت الطرح وبدأت الترويج له، بينما عين التينة لم تبلعه. الرئيس بري اعتبره طرحاً مفخخاً وخبيثاً، خصوصاً انه أثار التباسات وشكوكاً حول مصدره والغاية منه، والسؤال الكبير ظلّ يبحث عَمّن يحاول استفزاز بري؟
وعن سبب انشراح إحدى القنوات بهذا الطرح؟ ومن هنا بادرَ رئيس المجلس فوراً الى الاتصال بالنائب فيصل كرامي، قائلاً: «لسنا معنيين بهذا الطرح، ولا علاقة لنا به لا من قريب أو من بعيد».
في أي حال، يدخل البلد اليوم أسبوعاً جديداً من البحث عن حل للعقدة السنية، لكن هناك من يُصرّ على الاعتقاد بأنّ الدخان الابيض لهذا الحل لا بد ان يتصاعد من مدخنة القصر الجمهوري... ولذلك، ما على هذه العقدة إلّا انتظار المبادرة الرئاسية.