لِمَن يشكو المواطن اللبناني أمره؟ بعدما صار يعيش في دوّامة دولة مضطربة، مُعتقلة من قبل طبقة حاكمة وَلّادة لكل هذا المناخ السيئ، وللكَمّ الهائل من الفضائح التي تضرب كل مفاصل الدولة، وللعاصفة الاقتصادية التي وضعت البلد على شفير الانهيار الكامل، وفرضت الفقر ضيفاً ثقيلاً في كل البيوت.

وللسقوط المُخجل في إدارة عنوانها الفساد وفقدان القيم وانعدام الاخلاق، فيما لصوص الهيكل يحاضرون بالعفّة، ويمعنون في مد أيديهم الى جيوب الناس بالطريقة الحلال والحرام. وللعاصفة السياسية التي تتحكّم بها ذهنيات استعلائية واستئثارية وتجارية أسقطت في حلبة تأليف الحكومة المعطّلة حتى الآن، كل أوراق التوت التي تستر عيوبها.

لمَن يشكو المواطن اللبناني أمره؟ وها هو بالأمس يجد نفسه ضحية لِشَتوة صباحية، متواضعة، فإذا بها تكشف انعدام مبادرة المسؤول الى أي إجراءات احترازية واستباقية جدية لهذا المناخ، وأسوأ من ذلك محاولة التنصّل من المسؤولية والهروب الى الامام، فيما البلد، وجَرّاء هذه الشتوة، تعطّل وشلّت مفاصله وتضررت مصالح الناس، وتحوّلت شوارعه الى بحيرات قطعت شرايين العاصمة ومداخلها، وحبست المواطنين، ومن بينهم مرضى وموظفون، في سياراتهم لساعات طويلة وتسبّبت بازدحام خانق، فاقَمَته التحضيرات العسكرية للعرض العسكري المقرر في عيد الاستقلال الخميس المقبل وإقفال جادة شفيق الوزان، وهو الأمر الذي دفع قيادة الجيش الى الاعتذار من المواطنين.

وفيما لوحظ جمود كامل في حركة السير على مدخل بيروت الشمالي، وتحديداً بين الدورة وجونية، كانت بلدية بيروت تحاول توضيح ملابسات أو مسببات «بحيرة الرملة البيضاء» التي كَوّنتها السيول، في مشهد أثار الكثير من التساؤلات ورسمَ علامات استفهام حول واجبات الجهة المعنية بتدارُك مثل هذا الامر قبل وقوعه، فيما كان اللافت ما أعلنه وزير الاشغال في حكومة تصريف الاعمال يوسف فنيانوس من «انّ وزارة الأشغال، بشخص الوزير، تتحمّل مسؤولية كل أزمة ناتجة عن خلل في تنفيذ الأشغال الواقعة ضمن نطاق صلاحياتها. لكن لا بد من التذكير انّ صلاحية الوزارة لا تشمل الشوارع الداخلية للبلدات والمدن، ولا صِلة لها لا من قريب ولا من بعيد، قانوناً، بالأشغال الواقعة ضمن نطاق مدينة بيروت».

العقدة السنّية
سياسياً، بقي الملف الحكومي على حاله من التعطيل، وسط ارتفاع منسوب التوقعات حول صعوبة بلورة مخرج لعقدة التمثيل السنّي. واللافت في هذا السياق ما أكدته مصادر وزارية قريبة من هذا الملف، لـ«الجمهورية»، أنّ حديثاً جدياً يجري في أكثر من صالون سياسي، خصوصاً لدى المعنيين بملف التأليف، عن أنّ هذا الملف صار على وشك الترحيل الى السنة الجديدة، خصوصاً انّ مواقف القوى السياسية تؤكد استحالة تراجع أيّ من المعنيين بهذه العقدة عن شروطه، فضلاً عن انّ حركة الاتصالات لإيجاد مخارج لم تطرح أموراً جوهرية من شأنها أن تفكّك هذه العقدة».

وأشارت المصادر الى انّ جولة رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل على القيادات السياسية شكّلت عاملاً مشجّعاً على إمكالنية بلوغ حل، ولكن تِبعاً لمواقف الاطراف، فحتى الآن لا نستطيع القول انها يمكن أن تصل الى النتيجة المرجوّة على هذا الصعيد.

لا تراجع
وكشفت المصادر انّ الرئيس المكلف سعد الحريري أعطى كلمته النهائية حول هذا الموضوع، برفض توزيرهم على حساب تيار «المستقبل». وبالتالي، هو يرفض ما يعتبره محاولة إضعاف له تحت غطاء توزير النوّاب الستة، ولذلك من الخطأ الرهان على إمكانية تراجعه. والأمر نفسه بالنسبة الى «حزب الله» الذي يدعم مطالب «سنّة 8 آذار»، الذين باتوا يشعرون بقوة معنوية عنوانها انّ «حزب الله» الذي أوقفَ البلد وعَطّل انتخابات رئاسة الجمهورية لسنتين ونصف خِدمةً لانتخاب الرئيس ميشال عون، سيبقى معهم مهما طال الزمن حتى فَرْض توزير أحد النواب الستة في الحكومة».

الحريري - جنبلاط
الى ذلك، جمع عشاء في أحد مطاعم بيروت رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط في حضور النائب وائل أبو فاعور، وتركّز البحث خلال اللقاء حول آخر المستجدات السياسية ومسألة تشكيل الحكومة.

وعلمت «الجمهورية» انّ تطورات مشاورات البحث عن مخارج لهذه العقدة كانت مَدار بحث بين الرئيس المكلف ووزير المال علي حسن خليل، الّا انّ الأمور ما زالت تراوح مكانها، فيما أعاد رئيس المجلس النيابي نبيه بري التأكيد أمام زوّاره أنّ الوقت يضيق، ولا بد من حل هذه العقدة سريعاً. في وقت نَفت أوساط عين التينة لـ«الجمهورية» عِلمها بما تَردّد عن إمكانية حصول مقايضة بين حصة حركة «أمل» وحصة أي طرف آخر، سواء كان رئيس الجمهورية أو غيره. 

وفيما قال معنيون بهذه العقدة لـ«الجمهورية» إنهم يتوقعون في ايّ لحظة حصول مبادرة رئاسية لحلها، لوحِظ انّ أجواء القصر الجمهوري تؤثِر عدم مقاربة هذه المسألة وتلتزم الصمت حيالها، في انتظار ما ستُسفر عنه حركة الوزير باسيل. الّا انّ مصادر قريبة من بعبدا نَفت علمها بأيّ مبادرة، وبما تردّد عن انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قد يبادِر الى التخلّي عن الوزير السنّي، المُدرَج ضمن الحصة الرئاسية لمصلحة أحد نواب سنّة 8 آذار.

إجتماع الستة
في هذا الوقت، أعاد نواب «سنّة 8 آذار» رَمي الكرة في اتجاه الرئيس المكلف، وعكست أجواؤهم استياء واضحاً ممّا سَمّوه محاولة تجاهلهم من قبل الرئيس الحريري، وذهابه الى اتفاق غير علني لإعطاء الرئيس نجيب ميقاتي حصّة وزارية شمالية. وأكدت أوساط هؤلاء النواب لـ«الجمهورية»: فليُعطِ الحريري من يَشاء، ميقاتي او غيره، فهذا لا يعنينا. كما انه لا يمنع أبداً حصولنا على وزير في الحكومة.

هذا الموقف عبّر عنه مجدداً هؤلاء النواب في اجتماع عُقد أمس في دارة النائب الوليد سكرية، في حضور النواب: عبد الرحيم مراد، فيصل كرامي، قاسم هاشم، جهاد الصمد وعدنان طرابلسي. حيث أصدروا بياناً أكدوا فيه انّ «اللقاء النيابي السنّي التشاوري مُستقل يمثّل شريحة شعبية واسعة من المكوّن السني، وقد تَكوّن بإرادة شعبية وليس بإرادة أحد». 

أضاف البيان: «نؤكد حقّنا في التمثيل في الحكومة وفق المعايير المتفق عليها، وهذا أمر حتمي لا رجوع عنه، فَرَضه منطق عدالة التمثيل والتنوّع في تشكيل حكومة وطنية». وقال سكرية الذي قرأ البيان: «لا يجوز الالتفاف على الحق بتسويات، واذا كان الحريري حريصاً على التعددية فيقتضي أن يكون لنا وزيران على الاقل، وزير لنا وآخر للأربعة الآخرين». ومطلبنا لا يمسّ بصلاحيات رئيس الحكومة ولا بنصوص الطائف الذي نتمسّك به، ونهيب بكل المكوّنات السياسية، وعلى رأسهم الرئيس المكلف، أن يعيدوا حساباتهم. فمَن يعطّل التأليف هو من يعترض على تمثيل «اللقاء التشاوري».

الحريري
من جهته، حافظ الرئيس المكلّف على تفاؤله، فأعرب عن إيمانه «بقدرة لبنان على الخروج من الجمود السياسي الذي يعيشه»، لافتاً إلى أنّ «البلد تمكّن من الخروج من أزمات أصعب بكثير في السابق». ودعا الجميع إلى «العمل سوياً لأنّ يداً واحدة لا تصفق»، مُشدداً على «أهمية دور القطاع الخاص في النهوض بالبلد». 

وقال خلال حفل عشاء أقامه نائب رئيس غرفة تجارة بيروت غابي تامر: صحيح أنّ البلد يمر بفترة من الجمود السياسي، لكنني مؤمن بقدرتنا على الخروج من هذه الأزمة، وقد تَمكَنّا من الخروج من أزمات أصعب بكثير. 

البطاركة الكاثوليك
وسط هذه الأجواء، طالبَ مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك بعد اجتماعه في بكركي، أمس، المسؤولين بتسهيل تأليف الحكومة، معتبراً «انهم بعدم توافقهم على التشكيل خلال مهلة 5 أشهر، يظهرون وكأنهم غير راغبين ببناء دولة قانون وغير مبالين بمعاناة الشعب». 

واعتبر مجلس البطاركة «انّ فقدان الثقة المتبادَلة، وغياب الوحدة الداخلية، وطغيان المصالح الخاصة، بالإضافة الى التدخلات الخارجية، هي السبب لعدم التوصّل الى إعلان الحكومة الجديدة بعد أكثر من 5 أشهر على تسمية الرئيس المكلف وبدء المفاوضات». 

ورأى المجلس انه «من دون الثقة والوحدة والتجرّد يظهر المسؤولون السياسيون وكأنهم لا يريدون بناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية لأنها تتنافى ومكاسبهم ونفوذهم وزعاماتهم، كما يظهرون غير مبالين بمعاناة الشعب الذي أوكل السلطة العامة إليهم للاعتناء به». وطالبَ «جميع الاطراف السياسية المعنية تسهيل تأليف الحكومة اليوم قبل الغد، وبالتعالي عن مصالحهم ومواقفهم رحمةً بالبلاد وبالمواطنين». 

«حزب الله»
الى ذلك، أعلن نائب الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم: «بالنسبة إلينا قدّمنا كل التسهيلات لتشكيل الحكومة اللبنانية، ومن اليوم الأول ذكرنا مطالبنا ولم تكن معقّدة، وقبلَ رئيس الحكومة بهذه المطالب الخاصة في تمثيل «الحزب» بـ3 وزراء، ثم بعد ذلك جرى نقاش في البلد حول الحصص، وعمل رئيس الوزراء المكلف ليلاً ونهاراً لـ5 أشهر من أجل أن يُرضي الأطراف الذين يريدون حصصاً ومكاسب أكبر، والحمد لله كانت روحه طويلة، من أجل أن يذلّل العقبات بين المختلفين». 

أضاف: «اليوم القرار بيَد رئيس الوزراء المكلف، لأنّ المشكلة منه والحل معه، هو الذي يستطيع أن يحسم بأن ينسجم مع القاعدة التي وضعها بأن يمثّل كل فريق بحسب نجاحه في الانتخابات النيابية، فيمثّل المستقلون السنة في اللقاء التشاوري بوزير واحد وتنحلّ المشكلة. ليس لدينا ما نقدمه أكثر من ذلك، وبالتالي إذا أردنا أن يكتمل عقد الحكومة لتكون حكومة وحدة وطنية فإنّ رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري هو الذي يستطيع أن يحسم الأمر، فإذا حَسمه بعد يوم تَتشكّل الحكومة وإذا حَسمه بعد أسبوع تتشكّل الحكومة، هذا أمر يعنيه وهو يتحمّل المسؤولية الكاملة في هذا البلد».

لبنان بلد متخلّف
على صعيد آخر، لم يكن مضمون «الرسالة» التي حملها نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط فريد بلحاج مختلفاً كثيراً عن مضامين الرسائل السابقة، ومفادها انّ لبنان لا يستطيع أن يستمر في الطريق الذي يسلكه الآن، «وإلّا فإنّ أمراً ما سيئاً سيحصل حتماً».

وكان بلحاج، الذي زار بيروت أمس، قد التقى رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف، ومن ثم عقد جلسة مع مجموعة من ممثلي الاعلام المحلي والعالمي، وبَدا صريحاً في نقل الواقع اللبناني المرير.

وقال بلحاج بوضوح انّ كل دوَل المنطقة التي يعمل معها البنك الدولي تُحرز تقدماً في الاصلاحات الاقتصادية، باستثناء لبنان الذي لا يكتفي بالجمود، بل يتراجع مراتب كثيرة الى الوراء في مؤشرات عديدة.

وطرح بلحاج تساؤلات كثيرة حول الوضع في لبنان، ومنها ملف الكهرباء الذي يراوح مكانه منذ سنوات طويلة، ويكلّف الخزينة ملياري دولار سنوياً. كذلك انتقدَ مشهد صهاريج المياه وهي تجوب شوارع بيروت لملء المياه في المنازل. وتساءل كيف يمكن أن يكون لبنان، الذي يمتلك أهم رأسمال بَشري في المنطقة، في هذا الوضع؟! «وَضع الدولة المتخلفة». وغَمزَ من تقصير لبنان برفضه العذر الذي يقدّمه المسؤولون دائماً، والمرتبط بالاوضاع السياسية الخاصة، وقال: «كل الدول لديها مشاكل سياسية، لكنها تتقدّم وتلتزم مسيرة الاصلاحات، مثل مصر والمغرب وسواهما، إلّا لبنان. فنحن نشعر، في كل مرة نزوره، بأنّ الأمور لا تتحرك فيه أبداً»