تحوّلت شوارع العاصمة بيروت ومداخلها إلى مواقف كبيرة للسيارات احتجزت المواطنين بداخلها لساعات... مشاهد السير كانت مرعبة، والأحداث التي رافقتها كانت أكثر رعباً، كالإشكال الذي تخلله طعنٌ بالسكاكين على مداخل شركة كهرباء لبنان، كالسيدة التي كادت أن تضع مولودها في "عزّ العجقة"، وكحوادث السير المروعة التي حصلت في جونيه، وانطلياس، وزادت طين زحمة السير "بلّة".
ترافق سيل السير بسيلٍ من الشتائم التي لم ترحم جيشاً، ولا استقلالاً، ولا وطناً... على اعتبار أن تدابير السير المتخذة لتحضيرات العرض العسكري المركزي لمناسبة عيد الاستقلال، هي التي أدت لهذه الزحمة، برأي المواطنين.
فلم يشفع لمؤسسة الشرف والتضحية والوفاء تضحياتها الكبيرة لحماية "شاتميها" طوال السنوات الماضية، ولا حتى نضالها باللحم الحي للحفاظ على الـ 10,452 كم2، فسقطت كل المحرّمات أمام إذلال المواطنين، وكان الجيش الشماعة التي علّق عليها اللبنانيون فشل الحكومات المتعاقبة، اهتراء البنية التحتية، وربما فشل قوى الأمن الداخلي بتنظيم السير.
ليست هي المرة الأولى التي تحتضن فيه جادة شفيق الوزان وسط العاصمة بيروت العرض العسكري المخصص لعيد الاستقلال، وليست هي المرة الأولى التي يمهّد الجيش اللبناني لهذا العرض بتحضيرات مسبقة، إلا أنها المرّة الأولى التي تتحول فيه هذه التحضيرات تحديداً إلى لعنة عطّلت حياة المواطنين، واعتقلتهم داخل سياراتهم لساعات. وإن كانت هذه اللعنة يتعرّض لها اللبنانيون من وقت لآخر، لأسباب مختلفة كأوّل شتوة، الـ"بلاك فرايدي" أو حتى مع مرور موكب لأحد عظماء السياسة، أو لدى زيارة إحدى كبار الشخصيات السياسية الدولية للبنان.
لسنا في معرض تبرير الزحمة، ولا بوارد المزايدة على مواطنين ضاقت بهم سبل العيش الكريم في هذا البلد، إنما نحاول تصويب مسار الانتقاد، وتوجيه الشتائم لمن يستحقها.
لا بدّ من وجود جهة تتحمّل كل هذا العبث بيوميات اللبنانيين، أولها الجهات المسؤولة عن البنية التحتية غير المجهزة حتى لبعض حبّات المطر، والحكومة مجتمعة التي "نخَرَت" رؤوسنا بخطط السير ومشاريع النقل العام المشترك، من دون أي تنفيذ. كما لا يمكننا إلا أن نضع قوى الأمن الداخلي أمام مسؤولياتها في تنظيم السير في مثل هذه الأحوال وتنبيه الناس للإجراءات المتخذة أكثر من مرة وعبر أكثر من وسيلة، وعدم الاكتفاء بنشر التدابير لمرة واحدة قبل يومين من وقوع "الكارثة".
فليس من مسؤولية المؤسسة العسكرية تنظيم السير، بل هي تكتفي بإبلاغ قوى الأمن بالطرقات التي يجب إغلاقها في يومٍ معين، وبدورها تقوم القوى الأمنية بالتدابير اللازمة.
يؤكد مصدر عسكري لموقع "السياسة" أن مذكرة إغلاق بعض الطرق من أجل التحضيرات لعيد الاستقلال، صدرت منذ أكثر من أسبوع، وحصلت كالعادة اجتماعات دورية بين الجيش والقوى الأمنية لوضع الأخيرة بصورة التدابير اللازمة، لتضع خطتها على هذا الأساس وتبلّغ بها الناس.
ربما فشلت قوى أمن الداخلي، بتنظيم السير اليوم، وربما ساهمت الحوادث العديدة، والأمطار المفاجئة، بتوسيع "بيكار" هذا الفشل، إلا أن المؤكد هو أن هذا البلد غير مجهّز لا المطر، ولا حتى للعروض العسكرية. لكن إذا كان البلد من "كرتون" ما ذنب الجيش، وإذا كانت البنية التحتية "تِعتير" فما علاقة الاستقلال...؟ سؤالٌ نوجهه للمواطنين الذين علقوا اليوم في سياراتهم ونحن منهم، ونحمّلهم أيضاً وِزر اللعنات المتكررة علينا وعليهم، لأنهم شركاء فيها ويؤسسون لها بطريقة غير مباشرة عبر الاستسلام للأمر الواقع والاكتفاء بثورةٍ افتراضية لا تتجاوز مهما علا سقفها حدود صفحات التواصل الاجتماعي.