البعض يقول: لهذه الأسباب أيضاً لا تبدو الحماسة على بعض المعنيين بموقع رئاسة الحكومة بالعودة إلى السراي الحكومي. فالمهمّة هذه المرّة ثقيلة جداً، بل مؤلمة. والعالمون بالمؤشرات الاقتصادية والمالية يجزمون بأنّ الاستحقاق الأخطر لا بدّ أن يقع يوماً.
والكلام على الانهيار لم يعُد مجرد تهويل. فالذين يطلقونه اليوم لطالما كانوا الأكثرَ حرصاً على إعطاء صورة متفائلة: الرئيس نبيه بري يرى الخطر في مهلة أسابيع لا أشهر. وخبراء الاقتصاد جميعاً يوافقونه، والأرقام التي أصدرتها وزارة المال أخيراً تدعم المخاوف.
لكنّ المدلول الأبرز يبقى ما قاله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أخيراً في المنتدى الاقتصادي والاجتماعي الأول في بكركي، إذ خرج إلى حدٍّ ما مِن وضعية «التفاؤل التلقائي» التي يحرص عادةً أيُّ حاكم مصرف مركزي على تعميمها، وأبدى قلقاً واضحاً إزاء الوضع، للمرّة الأولى. وبعدما عرض أرقاماً ووقائع سلبية، قال: «إنّ عجز الموازنة أكبر من إمكانات لبنان».
إذاً، كيف يمكن أن يستعدّ الحريري لتأليف حكومته في ظلّ هذه التوقعات، والتي تضاف إليها طبعاً ضغوط العقوبات الأميركية؟ إنه يحتسب لتفاقم مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، التي تعصف بالبلد من بوّابتين:
1- الخلل المتمادي في مالية الدولة، وعدم وفاء لبنان تعهداته المتكررة في مؤتمرات باريس بالإصلاح، منذ ربع قرن، ما يثير الخشية من تخلّي الداعمين والمؤسسات الدولية عن التزاماتهم تجاه لبنان، ما ينذر بالأسوأ مالياً ونقدياً.
2- إستخدام «حزب الله» نفوذه للتوسّع في السيطرة على القرار في الحكومة العتيدة، وخصوصاً لجهة تمسّكه ببعض الحقائب الحسّاسة. وهذا ما يمكن أن يستثير مزيداً من الضغوط الأميركية على لبنان ومؤسساته ومسؤوليه.
ويمكن أن يضاف إلى هاتين البوابتين تهديد إسرائيل بضربة عسكرية لمواقع «حزب الله» في العاصمة وخارجها. وهذه الضربة قد تشكل ضغطاً إضافياً على الملف الاقتصادي إذا شاءت التطورات أن تتّسع لتشمل مرافق ومؤسسات عامة، كما في تموز 2006.
المثير للقلق هو أنّ الحريري يعرف تماماً أنه عاجز عن تنفيذ روزنامة إصلاحية طارئة تتكفَّل بتجنّب بلوغ الأسوأ. وفي معنى آخر، هو يدرك أنّ الانهيار إذا وقع، ولو تأخّر عن مهلة الأسابيع أو الأشهُر، كما يتردّد، فإنه في النهاية سيقع ضمن ولاية الـ4 سنوات التي يكون فيها رئيساً للحكومة. أي، عاجلاً كان الانهيار أم آجلاً، فإنّ قَدَرَ حكومته هو أن تتحمّل مسؤوليته!
هذا المعطى ينطبق أيضاً على رئيس الجمهورية ميشال عون، وفي شكلٍ مُوازٍ. فصحيح أنّ السنوات الـ4 المقبلة هي العمر المقدَّر للحكومة، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ هذه السنوات هي ما بقي من عمر العهد. وأساساً، يعتبر عون أنّ عهده الفعلي لم يبدأ بعد، وأنه سيبدأ بعد تجديد المجلس النيابي في انتخابات أيار الفائت والحكومة المنتظرة بعده.
وربما يكون «التنسيق الموضوعي» بين عون والحريري في مسألة الوزير السنّي السادس يندرج في سياق الهواجس المشتركة من سقوط الحكومة والعهد تحت وطأة الاستحقاقات الثقيلة. فكل منهما يعتبر أنّ نجاحه أو «احتراقه» باتا اليوم على محكّ الحكومة الآتية. ولن تتوافر لعون فرصة تالية إذا فشل العهد، وكذلك الحريري على الأرجح.
وثمّة نظريات إقتصادية تقول بحتمية حصول نهضة جديدة على أنقاض أيّ انهيار. لكنّ المشكلة في لبنان هي: هل الطبقة السياسية التي أوصلت بفسادها إلى الخراب قادرة على إعادة البناء؟ وهل سيتاح إنتاج طاقم جديد يدير البلد بنظافة وحداثة؟
لذلك، ثمّة مَن يسأل: هل تتقاطع مصالح عدد من المعنيين، حالياً، على المماطلة وإبقاء حكومة تصريف الأعمال، لعلّ ملامح المرحلة تنجلي داخلياً وخارجياً، ويتكفّل الوقت بحلحلة الأمور؟
هناك تجاذب يتحكّم بكل من المعنيين الأساسيين بتأليف الحكومة. فمن الممكن أن يجد كل طرفٍ مصلحة له في المماطلة وفي التأليف في آن معاً:
1 - «حزب الله» يرى مصلحة في استخدام الفراغ الحكومي ورقةً في النزاع الإقليمي وفي التهرّب جزئياً من استحقاق العقوبات، لكنه بالتأكيد يرتاح إلى وجود حكومة تمنحه التغطية الوطنية الشاملة.
2 - الحريري يرى أنّ مصلحته تقتضي أن يكون اليوم في السراي الحكومي. فهو انتظر سنوات ليعود إليها وإلى البلد، ويعيد الانتظام إلى تيار «المستقبل» بعد الترهّل الذي أصابه خلال وجوده في الخارج. ويريد الحريري أن يثبّت حضوره وطنياً وداخل الطائفة السنّية وعربياً ودولياً خلال السنوات الـ4 المقبلة، فيحقّق إنجازات تشكّل استمراراً لإنجازات والده الرئيس رفيق الحريري. لكنه، في المقابل، يخشى أن يقع الانهيار بين يديه!
3 - عون يستعجل انطلاق عهده وتحقيق الإنجازات الموعودة، لكنه أيضاً لا يرى خسارة في الانتظار لفترة معينة، لعلّ الظروف تصبح أكثر ملاءمة لتحقيق هذه الإنجازات وتجنّب الفشل.
ومن خلال اتصالاته الخارجية، يتلقّى الحريري تحذيرات عربية ودولية لا تُطَمْئن، في ما يتعلق بمسار الوضع الاقتصادي. وهو يعرف أنه يعيش بين مستحيلين: مستحيلٌ فتح ورشة إصلاحات ومستحيلٌ إقناع القوى الخارجية بأنّ لبنان سيلتزم الوعود التي التزمها أمام المؤتمرات المانحة وبأن تمنحه مهلة إضافية.
وهكذا، فالحريري عالق في نقطة شديدة الإحراج، ومعه رئيس الجمهورية. والحكومة والعهد معاً محشوران في المأزق. وليس في الأفق ما يوحي للحريري بخيارٍ مريح: لا الانخراط في اللعبة والمراهنة على الانتصار، ولا الخروج من اللعبة والاكتفاء بالحدّ من الخسائر. فكلٌ من الخيارين له ثمنُه… بل أثمانُه!