عندما سيطر الأمير البويهي أحمد معز الدولة على بغداد في النصف الأول من القرن الرابع الهجري، استشار أصحابه بقتل الخليفة، فأشاروا إليه بأن قتله سيؤلب أكثر السكان ضده، وأن بإمكانه التصرف بما يحلو لهم في مقدرات الدولة وشؤونها، مع إبقاء الخليفة حياً في الواجهة لضمان هدوء الناس، لأن الخلافة باتت رمزاً دينياً وسلطة سياسية شرعية رضخ لها الناس لأجيال متعاقبة. .
منذ تلك الفترة، نشأت سلطتان متوازيتان: سلطة قهر وغلبة يكون أساس نفوذها قوة السيف، تكون صاحبة اليد العليا والقول النهائي في تدبير الأمور، وهي سلطة سميت بالسلطانية. وسلطة ثانية هي سلطة الخلافة باتت ذات شرعية في أعين الناس لرمزيتها الدينية وامتدادها التاريخي، لكنها سلطة صورية لا تملك أن تقرر أمراً واحداً بنحو مستقل. وهي ثنائية استمرت بعد نهاية البويهيين ومجيء السلاجقة في أواسط القرن الخامس الهجري واستمرت في زمن المماليك. فكان هنالك خليفة وسلطان، الأول رمزي يوفر استقراراً اجتماعياً من دون أن يقدر على منع أو تغيير أو إصلاح أي شيء، والثاني سلطة الأمر الواقع، أي سلطة السيف صاحبة السيادة والقادرة على إمضاء أو منع أو تغيير أمر من الأمور. وهو واقع استمر حتى مجيء العثمانيين، الذين أعادوا توحيد السلطان والخليفة، وأصبح السلطان العثماني هو الخليفة بعد تسويغ ديني يجيز أن يكون الخليفة من خارج البيت الهاشمي.
ثنائية الخليفة والسلطان، تعني في ما تعنيه انفصال القدرة عن الشرعية، أي انفصال السيادة عن الدولة، وبقاء الدولة التي يخضع لها أكثر المجتمع في حالة عجز وشلل تامين بحكم فقدانها آليات تنفيذ قراراتها، ويجعلها تفقد أهم خاصيتها كدولة: وهي إعلان القانون Declaring Law وفرضه Law Enforcement. وتعني أيضاً استقلال القوة الضاربة عن الدولة، وامتلاكها اليد العليا، فتصبح صاحبة القول الفصل والنهائي، وتكون الدولة تحت تصرفها وفي خدمتها.
امتداد ثنائية الخليفة والسلطان الزمني في التاريخ الإسلامي بما يزيد على أربعة قرون، أي حتى نهاية حكمي السلاجقة والمماليك، حول هذه الثنائية في الوعي العام من واقع مفروض إلى أمر طبيعي، أي سمة طبيعية من سمات الحكم السياسي. ودفع الفقهاء، أمثال الماوردي، إلى التعامل مع هذه الثنائية بصفتها أمراً واقعاً لا يمكن الفكاك منه إلا بمعجزة ربانية. فراج على لسان الفقهاء حينها مقولة سلطة المتغلب، أي سلطة من يملك بالسيف من دون حاجة إلى شرعية مجتمعية (بيعة) أو شرعية دينية (تحقيق مقاصد الدين) ، بل يكفيه إثبات قدرته على قهر أية إرادة وإبادة أية قوة منافسة، ولا ينهي هذه السلطة إلا قوة بطش جديدة تتفوق عليها.
هذا الواقع ترك أثره على مفهوم الدولة نفسها في المجال الإسلامي، حيث لم تعد تاريخياً صيرورة متصلة لانتظام المجتمع وتلبية ضروراته، بقدر ما هي، وفق ابن خلدون، مسار متعاقب لحكم عصبيات (قبلية أو تحالف قبائل) متصارعة، يبدأ صعود أحدها بظهور بداوة فتية في قسوتها وخشونتها، وتنتهي بالتلهي في البذخ والملذات بانتظار بداوة فتية جديدة تقضي عليها. ما جعل الدولة عبارة عن حكم شخص أو عائلة لا حكم مؤسسة تنمو وتتطور، وجعل أساس مشروعية سلطتها مظاهر بطشها وقدرتها على التدمير وهول الرعب الذي تنشره. بالتالي صار تاريخ الحكم السياسي في الإسلام عبارة عن تعاقب دول تبدأ إحداها يزوال ما قبلها بالكامل، لا عبارة عن تعاقب سلطات داخل دولة واحدة. معيارية الشوكة في تكوين الدولة، حال دون تشكل الدولة، في الواقع والمفهوم والوعي، على أسس مدنية. أي حال دون قيامها بطرق سلمية، وتمارس حكمها لخدمة الخير العام، وتضمن استمراريتها برضى الناس وقبولهم.
ترجمت ثنائية الخليفة والسلطان في زماننا، بوجود سلطتين: أحداهما ظاهرة فاقدة القدرة الفعلية، تتمثل في مؤسسات الدولة التي تُسيِّر شؤون الناس وتنظم انتخاباتهم وتحدد ممثليهم. وسلطة منفصلة تقف وراء المشهد الظاهر، يكون أساس شرعيتها براعتها البوليسية، وملء السجون، وقدرتها الفورية على ممارسة القسوة بأقصى صورها الممكنة. مع حرص هذه السلطة أن تُؤكد عدم تقيدها وتأثرها بقانون أو قاعدة أخلاقية أو وجع بشري، لتزرع في أذهان الناس أنها قوة سيدة كلية لا يعلوها شيء ولا يحدها شيء، وقاعدة خلقيتها الوحيدة هي فورية البطش وفائض القوة.
هكذا ثنائية ظهرت بوضوح في نموذج الحزب الحاكم والنظم الثورية، التي تتصرف بمقادير الأمور وتمسك بمفاصل الحياة العامة، وإبقاء تبعات الكوارث والفشل على المسؤولين الرسميين. إلا أنه ومع سقوط فكرة الحزب الحاكم وفشلها في كل من سوريا والعراق ومصر والجزائر وغيرها، بتنا نشهد صيغة جديدة ومعاصرة لثنائية الخليفة والسلطان، يبدو أن لبنان حقل اختبارها الأول، ونموذجها المثالي القابل للتعميم على المناطق المتوترة وغير المستقرة، بخاصة سوريا والعراق واليمن وربما ليبيا. وهي ثنائية الدولة والقوة، أو ثنائية دولة بلا قدرة وقوة فائقة القدرة بلا دولة.
هو نموذج ماكر لا يحتاج إلى قمع دائم ومستمر، بل يكفي فيه عرض القوة في اللحظات المفصلية، ليعود جميع اللاعبين السياسيين إلى الحدود المسموح لهم بممارسة نشاطهم وشعبيتهم فوقها. إنها قوة تحشد في إطلالتها المتكررة كل طقوسيات القداسة ومظاهر التعالي ووجدانيات التسامي، مصحوبة بخطاب واثق يُذكِّر المعترضين عليها في الداخل بما يفعله وما يمكن أن يفعله فائض القوة المتوفر بكثافة، ويوقظ الحالمين بدولة تحتكر الإكراه المشروع من سباتهم الدوغمائي. قوة نجحت تدريجيا في تحويل روادعها وإنذاراتها وعواقب مواجهتها الوخيمة إلى رقابة باطنية وانضباط ذاتي من قبل جميع الفعاليات والممثليات والقيادات، التي تراقب من ذاتها مواقفها وكلماتها وتصريحاتها. لتتحول حتمية هذه القوة مع الزمن من قوة أمر واقع تفرض نفسها خلافاً لطبيعة الأمور، إلى قوة تقتضيها حقيقة الأمور وطبيعتها.
متى ندرك أن المشكلة لم تعد قضية وزير من هذه الطائفة أو تلك، أو معضلة تشكيل حكومة، بل قضية انتظام جديد وعميق تجاوز ثوابت ومرتكزات النظام اللبناني نفسه.