شَكّلت بكركي، أمس، حاضنة لمصالحة بين جعجع وفرنجية، وهو ما اعتبرته مصادر الطرفين فاتحة لمرحلة جديدة من العلاقات، تطوي صفحة طويلة من الخصام والصدام المرير بين الطرفين، والذي استمر لنحو 40 سنة.

الراعي

هذه المصالحة التي رعاها البطريرك الراعي، لم يخف فيها البطريرك الماروني سعادته بهذا الحدث، حيث قال قبل الخلوة التي جمعته مع جعجع وفرنجية: «ما أجمل وما أطيب أن يجلس الأخوة معاً، والمصالحة منطلق للوحدة الوطنية الشاملة التي يحتاجها لبنان».

وأكد: «نحن ضد الثنائيات والثلاثيات والرباعيات، نحن مع الشعب اللبناني بأجمعه ومؤسسات الدولة كلها. وإذا كان لا بد أن نتحدث عن ثنائية، فهناك ثنائية واحدة هي عندما نقول إنّ لبنان ذو جناحين مسيحي ومسلم متساويين متكاملين. وعندها، هذا الطائر اللبناني يستطيع التحليق عالياً. هذا هو سر لبنان بخصوصيته ودوره ورسالته في المنطقة، هذه هي أبعاد هذا اللقاء التاريخي».

فرنجية وجعجع

أمّا جعجع فقال: «هذا يوم مصالحة ويوم أبيض وجميل وتاريخي». مضيفاً، رداً على سؤال: «الآن أصبح كله معقول، ستراني في إهدن وزغرتا، وسترى غيري في معراب، كله وارد».

فيما قال فرنجية: «كان اللقاء مسيحياً بامتياز، وأهمّ أمر أننا لم نتطرّق إلى الأمور اليومية، بل على العكس تحدثنا عن المسائل الوجدانية، وكان اللقاء وجدانياً. وكما قلنا، صفحة جديدة نفتحها، ونحن اليوم نعتبرها علاقة طبيعية. وفي السياسة يمكن أن نتفاهم، فالوقت هو الذي سيقرر ما الذي سيحصل بعد ذلك».

وبعد الخلوة، صدر عن المجتمعين ما سُمّي «بيان المصالحة»، تلاه المطران جوزف نفاع، أعلن فيه تيار «المردة» وحزب «القوات» عن إرادتهما المشتركة في طَي صفحة الماضي الأليم والتوجّه إلى أفق جديد في العلاقات على المستوى الإنساني والإجتماعي والسياسي والوطني»، مشيراً إلى «التأكيد على ضرورة حلّ الخلافات بالحوار الهادف والعمل معاً على تكريس هذه العناوين عبر بنود هذه الوثيقة».

وأكد أنّ «عزاءنا الوحيد أنّ تضحيات الشهداء أثمرت هذا اللقاء التاريخي بعيداً عن أي مكاسب سياسية ظرفية»، مشيراً إلى أنّ «ما ينشده الفريقان من هذه الوثيقة ينبع من قلق على المصير، وهي بعيدة عن البزارات السياسية، ولا تسعى إلى إحداث أي تبديل في مشهد التحالفات السياسية القائمة في لبنان والشمال».

وأوضح المطران جوزف نفاع انّ «هذه الوثيقة لم تأتِ من فراغ، والتلاقي بين المسيحيين والإبتعاد عن منطق الإلغاء يشكلان عامل قوة للبنان، والتنوّع والعيش المشترك فيه، وزمن العداوات بين «القوات» و«المردة» قد ولّى وجاء زمن التفاهم»، مشيراً إلى أنّ «اللقاء ينطلق من قاعدة تمسّك كل طرف بقناعاته وثوابته السياسية، ولا تحمل التزامات محددة بل هي قرار لتخطّي مرحلة أليمة ووضع أسس حوار مستمرّ».

العقدة السنية

على الصعيد الحكومي، تقترب أزمة التأليف المعقّد من إنهاء شهرها السادس، ولكن من دون أن تلامس أي حلول لعقدة تمثيل «سنّة 8 آذار»، خصوصاً انّ الاطراف المعنية بها طرحت كل أوراقها على سطوحها العالية وشروطها المتصادمة، وحدّدت سقوفها بعدم التنازل او التراجع عن رفض تمثيلهم، كما عبّر الرئيس المكلف سعد الحريري. او عن المطالبة بهذا التمثيل ودعم موقفهم الى النهاية، كما عبّر الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله.

بري: دقّوا الحديد

واللافت للانتباه، في هذا السياق، أنه وسط هذين المنطقين المتصادمين، اللذين تنتفي بينهما أي نقاط وسطية او مساحات مشتركة، يبرز موقف رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي يصرّ على التأكيد انّ ابواب الحل ليست مقفلة، والامكانية ما زالت متوافرة لإيجاد مخرج، خصوصاً انّ رغبة الجميع واضحة في الوصول الى حكومة، وإن كانت الاجواء توحي بسخونة الخطاب السياسي. ومن هنا، فإنّ بري يتمسك بقوله:

«دق الحديد هو وحامي... والحديد، وكما هو معروف يلين دائماً على الحامي». مضيفاً: «انّ كثيراً من الامور التي تعتقد انها بعيدة يمكن ان تكون قريبة جداً».

وفي هذا السياق جاء كلامه أمام «نواب الاربعاء»، حيث قال «إنّ الرئيس المكلف والامين العام لـ»حزب الله» تركا أبواب الحل مفتوحة ولم يقفلاها».

وإذ شدّد بري على أنّ الضرورات تُحتّم بلوغ حل في أقرب وقت ممكن، قال أمام النواب إنه «أبلغ رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل موقفه تجاه الافكار التي يمكن أن يبنى عليها، آملاً أن تنجح الجهود والمساعي لتشكيل الحكومة في أسرع وقت ممكن للضرورات الوطنية على المستويات كافة».

باسيل

وتبرز في هذا المجال أيضاً حركة الوزير باسيل التي يتابعها بتكليف من رئيس الجمهورية، حيث حَطّ بالأمس في دار الفتوى، والتقى مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان.

وكان لافتاً انّ باسيل لم يُقلّل من حجم العقدة الماثلة في طريق التأليف، إلّا انه حرص على ضَخ إيجابيات في الشكل، عبر إشارته الى انّ منسوب هذه الايجابية يرتفع، ولكن من دون أن يحدد في أي اتجاه.

وقال: «نحن في أزمة وطنية، وكل فريق رفع السقف وحان الوقت للكلام بين أربعة جدران من أجل إيجاد الحل. ومع رفع السقف يرتفع الباب، وكلّي تفاؤل بعد أن قال الكلّ ما لديه»، مضيفاً: «يجب تشكيل حكومة وحدة وطنية لا يكون فيها إكراه ولا فرض بل صحّة تمثيل، ونريد رئيس حكومة قويّاً ولا نقبل إلّا أن يكون كذلك، وكلّ ما يمسّ برئيس الحكومة يمسّ بنا».

دار الفتوى

وأعربت مصادر دار الفتوى عن ارتياحها للجهود التي تبذل لمعالجة الوضع الحكومي المعقّد، وقالت لـ«الجمهورية» انّ المفتي دريان يؤيّد كل المساعي الرامية الى تذليل هذه العقدة، مقدّراً موقف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ومشدداً في الوقت نفسه على وجوب تسهيل مهمة الرئيس المكلّف، والعمل على تسهيل تشكيل الحكومة في أقرب وقت ممكن، خصوصاً انّ البلد بات في أمسّ الحاجة الى حكومة تدير أمره وتتصدى للأزمات الصعبة التي يعانيها، وفي مقدمتها الازمة الاقتصادية التي باتت تُنذر بمخاطر كبيرة، فضلاً عن انّ الظروف، سواء في لبنان او المنطقة بأسرها، تؤكد انه لم يعد مقبولاً او محتملاً أي تأخير.

وأكدت المصادر على الموقف الصادر اخيراً عن المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى، ولاسيما لناحية تأكيد حرصه على أن تسود في البلاد أجواء سياسية هادئة، تتعاون خلالها القوى السياسية بعيداً عن التشنّج والتصلّب، نحو هدف وحيد وهو إنقاذ البلد، وتتجاوز العقد والعقبات التي تحول دون بلوغه.

«الحزب» و«المستقبل»

وفي ما بَدا انه اتفاق غير مُعلن على عدم الذهاب الى التصعيد، لوحِظ تراجع في وتيرة الخطاب السياسي الهجومي بين تيار «المستقبل» و«حزب الله»، وهو أمر فَسّرته مصادر صديقة للطرفين بأنّ ذلك يَنمّ عن رغبة مشتركة، إنما غير معلنة، بالابقاء على «شعرة معاوية» وترك منافذ الحل قائمة والحفاظ على «خط الرجعة»، لقناعة الطرفين أنّ الحكومة ستتشكّل حتماً، وسيجلس الجميع معاً على الطاولة في نهاية المطاف.

لا انكسار ولا انتحار

واذا كانت حدود التخاطب القاسي بين الطرفين قد حُصِرت في خطاب السيّد نصرالله، وفي ردّ الحريري عليه، فإنّ ذلك عَكسَ، في رأي المصادر المذكورة، تَوجّه الطرفين نحو إعطاء فرصة للمبادرة الرئاسية لعلّها تحقق الغاية المنشودة وتحلّ عقدة تمثيل «سنّة 8 آذار».

وبالتالي، فإنّ الطرفين ينتظران ما ستُسفر عنه حركة الوزير باسيل. هذا في وقت تطرح تساؤلات حول ما يمكن أن تحققه هذه الحركة؟ وأي طرح سيبنى عليها كمخرج يكون مُرضياً لكل الاطراف؟

يأتي ذلك في وقت يصرّ فيه الطرفان على مواقفهما، فالرئيس المكلف، وبحسب مصادر تيار «المستقبل»، حَدّد في مؤتمره الصحافي الاخير حدود المُمكن الذي يقبل به، وحدود المستحيل الذي لا يمكن القبول به، وخصوصاً لناحية إشراك نواب «سنّة 8 آذار» في حكومته وعلى حساب الحصة الوزارية السنّية لتيار «المستقبل»، التي تخلّى فيها عن وزير يسمّيه بالشراكة بينه وبين الرئيس نجيب ميقاتي.

وبحسب هذه المصادر، إنّ الطروحات الاخيرة انطوَت على رغبة لدى البعض في تَخيير الرئيس المكلف بين أمرين هما: الانكسار او الانتحار. وقرار الرئيس المكلف شديد الوضوح حيال هذا الأمر، بأنه لن ينكسر ولن ينتحر. ولن يقبل في أي شكل من الاشكال بمحاولة استضعافه او إدخاله ضعيفاً الى الحكومة، ومؤتمره الصحافي شَكّل إعلاناً صريحاً ومباشراً لفشل تلك المحاولات.

من أين الحل؟

أمام هذا الواقع المعقّد، يقول مصدر وزاري لـ«الجمهورية» انّ الامور لا تبدو سهلة على الاطلاق، ولا أرى أفقاً ايجابياً يولّد التفاؤل بإمكان حصول ولادة وشيكة للحكومة بالنظر الى المواقف المتصلبة التي عَبّر عنها الحريري ونصرالله، فضلاً عن انّ المشكلة أصلها الطريقة الخطأ التي اتّبِعَت منذ البداية وأسلوب النقاش بين الاطراف، بحيث بدأ كل طرف يرسم سقفه في الاعلام بأنه يقبل بهذا ويضع «فيتو» على ذاك، وانه يريد هذا الكَم من الحقائب ويقزّم حصة غيره. إنها المعايير المختَلّة التي أدت الى هذه الأزمة.

أضاف المصدر: بحسب معطياتي، الحريري لن يتراجع، ولقد ألزمَ نفسه أمام جمهوره وأمام الرأي العام بسَقف لا يستطيع أن ينزل تحته. والأمر نفسه بالنسبة الى السيّد حسن نصرالله، الذي قال صراحة انه مع مطلب تمثيل «سنّة 8 آذار» حتى قيام الساعة. وبالتالي، لن يتراجع، وهو أمر دفع بالنواب الستة الى التصَلّب. وأمام هذا الوضع ثمّة إمكانية لحل، هو في يد رئيس الجمهورية، بأن يُبادر الى التضحية بالوزير السنّي المُدرَج ضمن الحصة الرئاسية لمصلحة تمثيل «سنّة 8 آذار». لكنّ تحقيق هذا الامر يتطلّب أولاً وأخيراً موافقة رئيس الجمهورية، وحتى الآن لا أستطيع ان اقول إنّ رئيس الجمهورية هو بصَدد الموافقة على حلّ كهذا.

«سنّة 8 آذار»

الى ذلك، وفي وقت لم يتبيّن بعد ما اذا كان موقف الحريري من نواب «سنّة 8 آذار» رافضاً لإشراكهم من ضمن حصة «المستقبل» أو لإشراكهم في الحكومة من حيث المبدأ، علمت «الجمهورية» انّ معنويات نواب «سنّة 8 آذار» ارتفعت بشكل كبير بعد خطاب نصرالله.

وتِبعاً لذلك، حسموا قرارهم بعدم التراجع عن مطلب تمثيل أحدهم حصراً في الحكومة، من دون القبول بأيّ طرح يرمي الى توزير شخص يسمّونه.

وقالت مصادر هؤلاء النواب لـ«الجمهورية»: إنهم لا يقبلون بأن يُسمّى أحد من خارج النواب الستة، وأيّاً كان النائب الذي يمكن ان يُسمّى من بينهم، فهم موافقون عليه من دون أي تحفّظ على الاطلاق. كما انهم لا يقبلون بأن يكون الشخص الذي يُسمّى من بينهم من حصة رئيس الجمهورية فيما لو تَمّ طرح هذا الأمر كمخرج، فالمسألة بالنسبة إليهم ليست فقط مسألة تمثيل فَرضَته نتائج الانتخابات النيابية التي أوجَبته، بل هي مسألة سياسية، بحيث انّ هؤلاء النواب يخوضون معركة سياسية لإثبات وجودهم، خصوصاً أنهم منذ العام 2005 يتعرضون لعملية تنكيل وإبعاد وإلغاء وتحجيم، ومطالبتهم اليوم هي لوضع حد لهذه العملية.