قسوة الخطاب الأخير للأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، وسقفه المرتفع، لم يكونا مفاجأة. في الظاهر يبدو موضوع توزير أحد النواب السنّة الفائزين في الانتخابات النيابية اللبنانية بالتحالف مع «حزب الله»، هو ما يستحق مثل هذا التصعيد؛ فـ«حزب الله» ضغط لاعتماد النسبية والصوت التفضيلي في القانون الأخير الذي جرت بموجبه الانتخابات، وفي ذهنه قبل كل شيء اختراق الساحة السنية، وكسر أحادية التمثيل أو شبهها التي اتسمت بها الحريرية السياسية. وحين نجح في منح الفرصة لهؤلاء السنة أن يتمثلوا نيابياً جاء دور تكريس نهاية الأحادية الحريرية، من خلال فرض أحدهم وزيراً في الحكومة المقبلة، في حين أُقفل تمثيل الطائفة الشيعية لصالح الكيان الثنائي الحاكم لها؛ أي «حزب الله» و«حركة أمل».
ولما شعر «حزب الله» بأن الحكومة شارفت على الولادة من غير الأخذ بموقفه الداعي لتمثيل سنّة المعارضة، وجد نفسه أمام السبب الحقيقي لتصعيده الأخير. وجد نفسه أمام الامتحان الذي تعرض له كل الأقوياء في لبنان ممن سبقوا نصر الله إلى سدة القوة، واختبروا حدودها أمام ضوابط النظام السياسي اللبناني. لن يعدم السياسيون اللبنانيون الوسيلة لابتكار تسوية قد تؤدي إلى توزير أحد سنة محور إيران، وهذا رائج في تاريخ التسويات اللبنانية الكثيرة.
ما يضير نصر الله هو ما عبر عنه من تبرم بالتواضع قائلاً بالحرف الواحد، إن التواضع مضرّ في لبنان، وإنه تصرف بترفع؛ أكثر من اللزوم. وهو حقاً في موقع يدعو للتبرم؛ إذ كيف يكون نصر الله وحزبه من صناع المعادلات في المنطقة ومغيّري السياسات والرهانات، ومثبتي مشروعات ومسقطي أخرى على امتداد الشرق الأوسط، بحسب دعاية «حزب الله»، وتعجزه متطلبات التوافق اللبناني عن توزير من يرى حقاً في توزيره؟ كيف سيرضى هذا القوي بحدود قوته والضوابط عليها؟
من المفيد أن يكون نصر الله قد تنبه لهذه السمة التي تطبع النظام السياسي اللبناني، ومن المفيد أنه بدأ النقاش من حيث يجب أن يبدأ، متعرّفاً على لبنانيته السياسية ومختبراً المداخل والمخارج إلى النظام السياسي؛ فـ«حزب الله» لم يدخل الحكومة إلا بعد عام جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005، وبعد حرب تموز 2006 خرج منها، ثم عاد إليها بعد جريمة «السابع من أيار» 2008 حين وجه «حزب الله» سلاحه إلى اللبنانيين العزل في بيروت وجبل لبنان، وبدأ يتدرج بالحيل التي تتيح له الوصول إلى تركيبة حكومية، تمكنه من الإمساك بقرار السلطة التنفيذية. حفلت مذّاك الأدبيات السياسية اللبنانية بمفردات «الثلث المعطل»، و«الثلث الضامن»، و«الوزير الملك»... وغيرها من مفردات تصب جميعاً في هدف واحد: زيادة الهيمنة على السلطة التنفيذية في غياب أي مسالك دستورية تسمح بذلك.
وهنا تكمن أزمة «حزب الله» الحقيقية... فائض قوة حقيقي، وملموس؛ سلاحاً وديموغرافيا وحزباً وأجهزةَ تعبئة وإعلاماً وشراكةً خارجيةً هائلةً في كل ساحات الإقليم، وفي مقابل كل ذلك، ضوابط نظام سياسي لا يني يذكر نصر الله وحزبه بحدود القوة وعدم قابليتها للصرف في لبنان بغير منطق الاعتداء والاستيلاء والمصادرة.
عجيبة هذه المفارقة... يجاهر حسن نصر الله بضيقه من التواضع و«الآدمية»، في مقابل القول الأشهر لرفيق الحريري: «ما حدا أكبر من بلدو». فهِم رفيق الحريري مبكراً ما لا يزال نصر الله يعجز عن فهمه. هو الآخر كان كبيراً بشخصه وثروته وتقاطعاته واندراجه في موجة عالمية عنوانها العربي الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، ومن بعده الملك عبد الله، رحمهما الله، وعنوانها الغربي الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وبين القطبين صلات عميقة بعظم عواصم العالم. ومثل نصر الله؛ كان يدور في خلد رفيق الحريري ربما، أنه طاقة أكبر من لبنان، لكنه بعكسه مرّن نفسه على الاعتراف بأن هذا الاستنتاج خاطئ وخطير؛ خطير عليه أولاً قبل أن يكون خطيراً على لبنان، هذا البلد الصغير الذي ابتلعت رماله المتحركة ياسر عرفات، وكمال جنبلاط وبشير الجميل وموسى الصدر، كلاً وفق سياق تجربته وخصوصيتها.
يقف نصر الله في منطقة الاختبار هذه التي سبقه إليها آخرون، وعبر عنها بوضوح في خطابه الأخير الذي عُدّ في لبنان أنه خطاب انقلابي، وتهديدي، وما رأيت فيه إلا باباً قرر نصر الله متأخراً الدخول منه إلى واقع النظام السياسي اللبناني. في ذروة ما يظن أنها قوته، تتحرك الأمور من حوله بسرعات فائقة؛ فالعراق يسعى لإيجاد توازن داخلي وتوازن في العلاقة مع إيران، مختلف عما ساد العراق منذ 2003... في سوريا تحث موسكو الخطى باتجاه بدء العملية الدستورية الانتقالية، وفي هذا السياق سيلعب رباعي إسطنبول؛ الروسي - التركي - الفرنسي - الألماني، دوراً أكبر من ثلاثي آستانة؛ الروسي - التركي - الإيراني. حضرت إيران في الحرب وتبدو بعيدة في ترتيبات السياسة. غزة حماس تبحث عن مخارج من المرحلة الممتدة منذ انقلاب 2007، واليمن يتهيأ لجديده... كل ذلك يحدث في ظل عقوبات اقتصادية تجددت على إيران تعِد بأزمات أعمق وأخطر. لبنان بهذا المعنى الحصن الأخير لـ«حزب الله»، والإمساك به ضرورة يرى الحزب إلحاحها ويلمس استحالتها… ويغضب!