النظام السياسي في لحظة انسداد تتأسّس على لحظات انسداد سبقتها، لكنها اليوم لحظة انسداد أقل ما يقال بصددها أنها أكثر خطورة. "الدستور" في مطرح، المؤسسات الدستورية في مطرح آخر، ميزان القوى الداخلي في مطرح مختلف ثالث، المسارات الخارجية، الإقليمية والدولية في مطرح رابع. بعد خمسة أشهر على عرقلة تشكيل حكومة جديدة في إثر انتخابات نيابية تأجّلت خمسة أعوام، هناك من يطالب بحقه في التعطيل الموازي، خمسة أشهر إضافية. التعطيل المتبادل إذاً، إنما التعطيل المتبادل اللامتكافىء، نظراً إلى أن فريقاً واحداً يمتلك أسباب القوة المسلّحة، ويريد في الوقت نفسه الشيء ونقيضه، معايير عادلة ومنصفة لسائر المكوّنات، إنما بشرط أن يكون هو المرجع الإرشادي والتوزيعي الذي لا تُردّ له كلمة.
بعيداً عن الدراما، والبداهات المستعادة والمكرّرة حدّ التلف، السؤال الآن مزدوج.
بالدرجة الاولى، هو السؤال عن الكيفية التي يمكن بها أن يتابع عهد الرئيس ميشال عون شقّ طريقه، بناء على مسار التسوية التي انعقدت قبل عامين، وأضيفت إليها مقولة النأي قبل عام. كيف يتجنّب العهد الرئاسي الحالي منطق الاستغراق في التعطيل المتبادل واللامتكافىء، لا سيّما بعد الكلمة الأخيرة للسيد حسن نصر الله، حيث شرح فيها الأمين العام لـ "حزب الله" منظار وزن الحزب للأمور؟ بخاصة بعد الانتخابات الاخيرة، بشكل بات يفرض على مختلف اللاعبين السياسيين منسوباً أعلى من الوضوح في الموقع والموقف، مما كانت عليه الحال في الأعوام الأخيرة، علماً أن كلام نصر الله، وبالتوازي مع طابعه التصعيدي في الموقف، أعاد أبداً "النقاش" في البلد إلى المسألة المركزية، مسألة العلاقة بين مكوّنات البلد، وبين "حزب الله" والآخرين بشكل أساسي، لكن أيضاً العلاقة بين أزمة انعدام التوازن بين امتلاك فريق للسلاح وبين أزمة التركيبة اللبنانية الشاملة التي ما عاد من الممكن المكابرة عليها.
وبالدرجة الثانية، هو سؤال "ما العمل؟". وهذا يطرح نفسه على الجميع بالنتيجة، كلّ من موقعه. على رئيس الجمهورية، والرئيس المكلّف، والتيارات السياسية المختلفة ذات التمثيل البرلماني. منطقياً، الخيار هو بين قبول ما يريده "حزب الله" وبين رفض ما يريده، من ناحية توزير أحد نواب "سنة 8 آذار". منطقياً، ليس هناك من خيار ثالث هنا. لكلّ من الخيارين البديهيين أكلافه وتداعياته المنظورة وغير المنظورة. ثمة تفاوت كبير بين هذين الخيارين. فالحزب يقفل عملياً خيار التنازل له هذه المرة. أقله هذا ما يظهر في أعقاب الخطاب الأخير.
رغم كل تعقيدات الوضع الحالي، وارتفاع موجة الحديث عن التداعيات السلبية لذلك على الاقتصاد، يبدو أن البلد عاد الى حالة الحماوة السياسية، بعد تبلدها لفترة غير قصيرة، لكنها عودة موسومة باللاتكافؤ بين القوى، الذي يعكس الى حدّ كبير اللاتكافؤ بين قوة ذات طابع تعبوي، إيديولوجي، ومسلّح، وبين قوى من أنماط مختلفة، لكنها إما لا تعرف لغة السلاح من الأساس، وإما هجرتها منذ عقود بات يجاوز الاصطلاح عليها بأنها "عقود طويلة".
ما العمل حيال هذه "العقدة" الجديدة؟، يُفترض أيضاً أن الأمور ذاهبة إلى تعقيد يدوم فترة أطول بكثير ممّا كان يتخوّف منه أكثر المتشائمين قبل أيام. من السابق لأوانه مع ذلك تحديد موقع اللحظة المتأزّمة الملتهبة الحالية من خارطة الأزمات وأزمنتها في البلد، لكن الواضح أنها أزمة "جزئية" فتحت رأساً على كل عناوين المسألة اللبنانية في وقت واحد. البلد يحتاج قبل كل شيء الى جملة مكاشفات، ومصارحات، وبخاصة على صعيد القوى التي تواجهت لسنوات مع منطق "حزب الله" ثم دخلت في إطار التسوية، التي أتاحت انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة أولى للعهد وصياغة قانون انتخابات وتنظيم انتخابات، ثم يظهر أنه لم يعد متاحاً لها بعد الانتخابات الأخيرة الشيء نفسه.