حالة الغضب والإحباط في الشارع السنّي، والتي تؤججها مشاعر الرفض والتمرد في صفوف الشباب، لا يصح التعامل معها وكأنها غيمة مزاج مشوش، سرعان ما تعبر وتعود الأمور بعدها إلى هدوئها الطبيعي، لأن أسبابها ليست ظواهر آنية و عارضة، بقدر ما هي نتيجة مجموعة تراكمات وممارسات خاطئة بحق هذه الجماعة، أدت إلى الإحتقان الحالي.
ومع مرّ الأيام، تنمو هذه الحالة وتتعقد، في ظل غياب المعالجات الجدية على أرض الواقع، من جهة، مقابل إستمرار ممارسات الإهمال والتهميش، وإستفحال مشاعر الغربة عن الدولة ومؤسساتها الخدماتية المختلفة، من جهة ثانية، نتيجة التمييز في التعامل بين مواطني المدينة الواحدة والحي الواحد، وإفتقاد الدعم السياسي المطلوب في دوائر الدولة العليّة.
وهذا يعني أن المسألة لم تعد وقفاً على الواقع السياسي، والحصار الذي يتعرض له موقع رئاسة الحكومة منذ فترة، و غياب خطة جمع الصف، وتوحيد الكلمة، للدفاع عن دور ومكانة المركز السنّي الأول في الدولة اللبنانية وحسب، بل وصلت إلى مضاعفة الشعور بالغبن والمظلومية على مستوى الحياة اليومية، سواء بالنسبة للملاحقات الأمنية المبالغ فيها في أحيان كثيرة، أو معاملة الموظفين، وبعضهم من ذوي الرتب العالية، في دوائر الدولة، أو حتى بالنسبة لفرص التوظيف، أو حتى دخول بعض كليات الجامعة اللبنانية، فضلاً عن إختلال الوجود الوظيفي في العديد من المؤسسات العامة، حيث يخلو بعضها من وجود هذه الطائفة بالذات، خلافاً لكل القوانين والأعراف المعمول بها في النظام الوظيفي الطائفي في لبنان.
تتساءل بعض النخب السنّية: أين نحن في ديوان المحاسبة مثلاً؟
من يتابع التوازنات في تشكيلات المؤسسات الأمنية؟
لماذا يتحمل تجار المدن الرئيسية، مثل بيروت وطرابلس وصيدا، أعباء الرسوم والضرائب المختلفة: من ضريبة الدخل والقيمة المضافة، إلى رسوم الجمارك وإشتراكات الضمان والكهرباء والمياه، زائد الرسوم البلدية على المؤسسات؟
من يقف مع أي موظف يتعرض للمهانة أو التعسف من رؤسائه، وأحياناً من مرؤوسيه، لرفع الظلم عنه، كما يحصل مع مرجعيات الطوائف الأخرى، والوقائع عنها أكثر من أن تُعد وتُحصى؟
لماذا يتعرض أبناء المدن الكبرى للذُل والمهانة، وللمماطلة والتسويف، في إنجاز معاملاتهم في دوائر بلدياتهم، في حين يتمكن أبناء الضواحي والمناطق المحيطة من إنهاء معاملاتهم بسرعة البرق، ودون أن يتجرأ أحد على مراجعة ما فيها من مخالفات؟ وما يُقال عن البلديات يمكن قول مثله وأكثر عما يجري في القضاء وفي السجون، وفي أي مباريات دخول سواء إلى إدارات الدولة، أو إلى المؤسسات الخاصة!
* * *
أما في السياسة فحدّث ولا حرج!
ولعل ما يحصل من تداخلات وضغوطات في تأليف الحكومة العتيدة، يرسم صورة واضحة عن حجم الخلل الحاصل في المعادلة الداخلية، وتزايد إحتمالات تطويل أمد أزمة التعطيل الراهن، تحت طائلة إستخدام الفيتوات المتبادلة، والإصرار على فرض شروط معينة على الرئيس المكلف، آخرها توزير أحد نواب ٨ آذار السنّة، ومن حصته الوزارية أيضاً وأيضاً، مما يعني إستبعاد تظهير الحكومة الجديدة في المدى المنظور!
الواقع أن الهوة الملحوظة بين القيادة والقاعدة، والتي برزت في السنتين الأخيرتين، لاسباب معروفة ولا ضرورة لإعادة تكرارها، قد شجعت المتربصين من القوى الحزبية والسياسية الأخرى، على مد اليد إلى «الخرج السنّي»، وتحقيق إختراقات واضحة في أكثر من موقع، وأكثر من منطقة، مستغلة حالة الإرباك والضعف السائدة في أوساط الجماعة، بعد تراجع ما كانت تحظى به من دعم ومساندة من الأشقاء العرب، وخاصة السعودية ومصر والدول الخليجية.
على عكس ما كان يحصل مع الأطراف الأخرى، (وخاصة حزب الله)، التي بقي دعمها منتظماً على مدى سنوات طويلة، وفي إطار برنامج تنموي، وخطة نهضوية، أتت أُكُلها في لبنان، وعلى مستوى المنطقة!
ولعل قلة التواصل بين القيادة والقاعدة، أدى إلى إبراز حالة الإرباك والتضعضع السائدة، مما دفع الأطراف الأخرى، الحليفة وغير الحليفة، إلى التجرؤ على حقوق «الشريك المسالم»، في التعيينات والقرارات والمبادرات المختلفة، دون مراعاة لوضعه تجاه قاعدته الشعبية، وبعيداً عن ملاقاته في منتصف الطريق، لإلتقاط ما قدم من تنازلات و«تضحيات»، تكريساً لنظرية أم «الصبي»، وتوظيفها في مسار الخروج من الأزمة الخانقة، عوض إستغلالها لتحقيق مكاسب حزبية وفئوية سريعة، على حساب الشريك الأساسي في التسوية التي أنقذت البلد من الفراغ الرئاسي المدمر، الأمر الذي فاقم الخلل في التوازن الداخلي، وزاد من معاناة الشعور بالإحباط والتهميش في أوساط الجماعة.
وأظهر تدني نسبة المشاركة في الإنتخابات الأخيرة حجم المعاناة التي تنهش في جسد الجماعة، فأختارت الأكثرية الساحقة أن تعبر عن مواقفها الرافضة لهذا الواقع المرير، بمقاطعة التصويت في صناديق الإقتراع، فكانت النتائج صادمة على أكثر من صعيد : سواء بالنسبة لحجم الأصوات التفضيلية، التي رجحت كفة المنافسين في دوائر رئيسية، مثل بيروت وطرابلس، أو فيما يتعلق بالإختراقات التي حصلت في معظم الدوائر، وأدّت إلى إنخفاض عدد الكتلة النيابية إلى النصف تقريباً.
وسادت قناعة لدى شرائح واسعة في الشارع السني بأن قانون الإنتخابات على قاعدة النسبية العرجاء، والذي اعتُبر نسخة مقنَّعة عن المشروع الأرذثوكسي، إنما كان المستهدف منه الطائفة السنّية، التي خرجت وحدها خاسرة من هذه الإنتخابات، وأكثر إحباطاً مما كانت عليه قبلها!