وطوال خـمسة أشهر أقنعنا «الـحزب»، أنّ آخر هـمّه الـحصص والـحقائب، وأنّه الوحيد الـحريص على مصلحة البلاد، والذي يعمل بكلّ طاقته من أجل تسهيل تشكيل الـحكومة، وهو بعيد أشدّ البعد عن آفة الـجشع التـي اجتاحت الأحزاب كافةً. وإذ بنا نُفاجأ، أنّ «الـحزب» الذي كان يعظ باقـي الأطراف بوجوب التواضع والتنازل والإسراع فـي تشكيل الـحكومة، لأنّ أوضاع البلاد الإقتصادية والـمعيشية لا تـتـحمّل ترف الإنتظار والدلع والعناد، يقف اليوم حجر عثـرة أمام الولادة التـي طال إنتظارها.
حـجّة «الـحزب» الـمُعلنة، أنّ هناك نواباً من الطائفة السنّية ومن خارج «تيّار الـمستقبل» يـجب أن يتـمثّلوا فـي حكومة «الوحدة الوطنية». هذه الغيـرة الـمُفاجئة فـي اللحظة الأخيـرة، أثارت الريـبة والشكوك بنيّات «الـحزب».
كان يُـمكن أن تكون هذه الـحجّة مُـحقّة ومُقنعة أكثـر لو طالب «الـحزب»، الـحريص على الوحدة الوطنية، بتـمثيل النواب الـمسيحيـيـن أيضاً، الذين هم خارج حزبَـي «التيّار الوطنـي الـحرّ» و»القوات اللبنانية»، أمّا وقد حصر «الـحزب» مطلبه بـحلفائه السنّة، فـهذا يعنـي أنّ هناك حسابات أخرى وأسباباً أخرى لا يـمكنه الإفصاح عنها لأنـها ستسبّب شرخاً كبيـراً مع حليفه «التيّار» ومع رئيس الـجمهورية.
الثابت حتـى الآن، أنّ أزمة تأليف الـحكومة ستطول إلى أمد غيـر منظور، ما دامت حسابات «حزب الله» ومن ورائه إيران، لا تتطابق مع حسابات رئيس الـجمهورية. وهذا ما يـجعل انطلاقة العهد فـي بداية سنته الثالثة، متعثّـرة ومليئة بالألغام والتـحدّيات. حتـى وإن حُلّت العقدة السنّية وتشكّلت الـحكومة، فالتـركيبة التـي يتداولـها الأفرقاء، والتشنّجات التـي تكشّفت فـي الآونة الأخيـرة، تُنذران بـمواجهات داخل الـحكومة، وستتجدّد الـخلافات حول عدد من الـملفّات الكبـرى الداخلية والـخارجية. من الكهرباء والنفايات والإتصالات وبلوكات النفط، إلى مشكلة النازحيـن وسلاح «الـحزب» وتدخّلاته الإقليمية والعقوبات الأميـركية والتطبيع مع سوريا وقرارات الـمحكمة الدولية، وصولاً إلى الإستـراتيجية الدفاعية التـي وعد رئيس الـجمهورية بإحياء ملفّها النائـم والـمؤجّل منذ عام 2005.
نـحن أمام تـحدّيات كبيـرة وضغوطات إقليمية ودولية ستتصاعد يوماً بعد يوم، وللأسف، نـحن أمام نـهج لـم يتغيّـر، ونرى أنّ القوى ذاتـها التـي تُـمسك بزمام السلطة لا تزال على حالـها. فالـحكومة الـمنوي تشكيلها، لن تكون قادرة على مواجهة الأزمات الكبيـرة ما دامت على شاكلة الـحكومات السابقة، وليس تعطيل تأليف الـحكومة لأشهر عدّة، إلاّ مرآة للأزمة الداخلية وسياسة الـمحاصصة وتقاسـم الـمغانـم، من دون الأخذ فـي الإعتبار مصالح الـمواطنيـن.
كما انّ الـحياة البـرلـمانية لن تكون سليمة لأنّ الكتل البـرلـمانية الأساسية فـي الـمجلس هي ذاتـها فـي الـحكومة. فكيف يـمكن مراقبة الـحكومة ومـحاسبتها على أدائـها؟ وكيف يـمكن إنقاذ دولة شبه فاشلة تديرها أحزاب طائفية بعضها مرتبط بالـخارج ويأتـمر بأوامره، وطبقة سياسية فاسدة بـمعظمها وأثبتت فشلها فـي السنوات الـماضية؟
لقد جاء مؤتـمر «سيدر» لينقذ الإقتصاد الـمتهاوي وليقلّص العجز فـي الناتـج الـمحلّي للبلد. وطلبت الدول الـمانـحة من لبنان إجراء إصلاحات كثيـرة بـهدف تـمويل الـمشاريع الـ 250 التـي قدّمتها الـحكومة، وحصلت من خلالـها على مـجموعة قروض بفوائد ميسّرة وهبات وصلت قيمتها إلى 11 ملياراً و800 مليون دولار أميـركي.
فـهل ستنجح الـحكومة الـمتـنافرة والـمتعارضة فـي تـحقيق الإصلاحات الـمطلوبة للحصول على هذه القروض؟ صحيح أنّ القروض بفوائد ميسّرة هي إيـجابـية إن وُضعت فـي مكانـها الصحيح وبشفافية مطلقة، ولكنّ الـخوف أن تـتبـخّر الديون مرّة أخرى، فـي بلد يذهب كل بضع سنوات إلى الإقتـراض مـجدّداً من دون توفيـر الكهرباء وأبسط الأمور الـحياتية لـمواطنيه.
إنّ الـمواطن الواقع تـحت ضغط الظروف الإقتصادية القاهرة، تلاشت أحلامه الكبيـرة، ولـم تعد تـهمّه الشعارات البـرّاقة التـي ضحّى الكثـيـر من أجلها، ولا يريد أكثـر من أمن واستقرار وفرص عمل وخدمات جيدة، من كهرباء وماء وتعليـم وصحة وتأميـن الـحياة الكريـمة له ولعائلته، وأن يُـطـبَّـق القانون بالـمساواة عليه وعلى الآخرين، وأن يُرفَع الغطاء السياسي عن كلّ من يُـثـبـت تورّطه فـي أعمال الفساد فـي مـختلف الإدارات العامة والـمؤسّسات، بعدما بلغت حدوداً غيـر مسبوقة تـهدّد أسُس الدولة ومرتكزاتـها.
لقد صدَق من قال: أهمّ عناصر قوّة الأمّـة جودة تعليمها ونزاهة قضائـها وحُسن اختيار قادتـها ومـحاربة الفساد على كلّ مستوى.