لم تتمكن “الموجة الزرقاء” للديمقراطيين من إلحاق هزيمة بالرئيس دونالد ترامب في انتخابات نصف الولاية، مما دفعه للقول إنه حقق “نجاحاً هائلاً”. لكن بعيداً عن الدعاية والتقييم الذاتي، تمكن الحزب الديمقراطي من انتزاع الأكثرية في مجلس النواب على غرار السوابق في استحقاقات مماثلة، لكن تحسين الجمهوريين لأكثريتهم داخل مجلس الشيوخ وبين حكام الولايات أتاح لترامب تلطيف خسارته في انتخابات تحولت لاستفتاء على شخصه ونهجه.
في الحصيلة النهائية، انتهت حقبة سنتين من السيطرة المطلقة للجمهوريين على السلطتين التنفيذية والتشريعية، وسنشهد نوعاً من السلطة المضادة خاصة في السياسة الداخلية. لكن الصلاحيات الواسعة لسيد البيت الأبيض في النظام الرئاسي وأكثريته النسبية ستدفعان ليس للاستمرارية في السياسة الخارجية في النصف الثاني من الولاية فحسب، بل سيكون هناك تركيز أكثر على إنجازات في الخارج لتأثير ذلك على الداخل وعلى تصويت الأميركيين في انتخابات الرئاسة القادمة في 2020.
تبين القراءة المتمعنة لنتائج الانتخابات أن الولايات المتحدة الأميركية منقسمة إلى نصفين أكثر من أي وقت مضى، وأن زيادة نسبة المشاركة بسبب إقبال النساء والشباب والأقليات الملونة (114 مليون مشارك مقابل 83 مليون شخص في 2014) تدلل على استقطاب كبير وكذلك على ثقة بالممارسة الديمقراطية، بالرغم من العنف في الحملات وتضخم إنفاق المرشحين الذي وصل إلى تسعة مليارات دولار ذهب خمسها لحملات الدعاية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ومن الدروس الأخرى المستقاة التحول في الحزب الديمقراطي مع وصول جيل جديد من المنتخبين بينهم نسبة كبيرة من النساء لا سابق لها ومجموعة من ممثلي الأقليات بينهم مسلمتان. ومع عدم حصول المد الديمقراطي تحول الحزب الجمهوري إلى حزب ترامبي، وظهر جلياً سقوط رهان البعض على أن ظاهرة الرئيس دونالد ترامب، الآتي من خارج السياق المعتاد للنخب الحاكمة، هي مجرد ظاهرة عابرة.
على العكس من ذلك شهدنا ترسخ أو رسوخ الظاهرة الترامبية سواء من خلال خطاب الترويع واللعب مع الحقائق كما يقول معارضو ترامب، أو من خلال نظرة معينة لمحاكاة التاريخ الوطني مع شعاري “أميركا أولاً” و”إعادة عظمة أميركا”، وأثر ذلك على قاعدة انتخابية غالبيتها من بروليتاريا بيضاء تتخوف من التعددية والخارج. لكن بالرغم من حملته على إرث سلفه باراك أوباما خاصة لجهة الضمان الصحي نجحت خطط ترامب و”حروبه التجارية” في تسجيل حصاد جيد للاقتصاد الأميركي مع أقل نسبة بطالة منذ خمسين سنة. ومع أن بعض الخبراء الاقتصاديين يتوقعون تراجعاً في تحسن الأداء الاقتصادي في العامين القادمين، لكن ترامب يمكن أن يعيد ذلك لتغير الأكثرية في مجلس النواب وعرقلتها له.
لا يعني كل ما تقدم أن درب ترامب معبد تماماً كي يجدد ولايته في 2020، وبدل توزيع الأدوار ضمن سلطات أكثر توازناً ستطغى إستراتيجية الانقسام الحاد لتكون الحياة السياسية أكثر صخباً وأكثر توتراً. ومن خلال المؤتمر الصحافي الأول له بعد الانتخابات تبدو هذه هي اللعبة المفضلة للرئيس الذي سرعان ما تخلص من وزير العدل المتردد جيف سيشنز (مع المحقق روبرت مولر) في ملف التدخل الروسي المزعوم في انتخابات 2016، وسرعان ما هدد الديمقراطيين بتحقيقات عن تاريخهم إذا تجرؤوا وبدؤوا بفتح الملفات. واللافت أن الرئيس دونالد ترامب مع مهرجاناته الانتخابية السبعة والثلاثين بدا وكأنه في حملة انتخابية دائمة وأن الأولوية الدائمة لتنفيذ وعوده الانتخابية مما يمنحه مصداقية كبيرة عند قاعدة وطنية شعبوية ومعبئة تماماً مع حصول أحداث مثل قافلة المهاجرين غير الشرعيين الآتية من أميركا الجنوبية أو صعود أشباه ترامب من إيطاليا إلى البرازيل.
في تناقض مع تفاؤل الريغانية التي سيطرت على الحزب الجمهوري منتصف الثمانينات باندفاعها الليبرالي وكسب الحرب الباردة لاحقاً مع الجمهوري الآخر جورج بوش الأب، وعلى عكس تنظير المحافظين الجدد لحقبة جورج بوش الابن وتصور الأحادية الأميركية كنهاية للتاريخ، تبدو الترامبية الراسخة حذرة ومتشائمة تجابه كل الآخرين للحفاظ على المكاسب مع مخاطر الانعزال على دور الولايات المتحدة القيادي في العالم وممارستها كقوة عظمى وحيدة حتى إشعار آخر.
والهامش الواسع للمناورة عند دونالد ترامب يرتبط بالخلفية الأيديولوجية التي تسكنه ولطبيعة تركيبة قاعدته المكونة من ثلاثة عناصر أساسية: القوميون البيض الذين يلامسون العنصرية في مواجهة “الغزو” و”الإجرام” في بلد انتشار السلاح المرخص. الإنجيليون الذين يشكلون على الأقل ربع القاعدة الانتخابية والذين تم تلبية مطلبهم “التبشيري” بنقل السفارة الأميركية إلى القدس وتعيين القضاة المحافظين في المحكمة العليا، وأخيراً الليبراليون الجدد الذي جاراهم رجل الأعمال الملياردير في خفض ضرائب الأغنياء وغيرها من وصفاتهم.
إزاء هذه الوقائع سيراهن الديمقراطيون على كبح اندفاع ترامب في التغييرات الداخلية في العديد من المواضيع وأبرزها الحماية الصحية وحصانة القضاء ومكافحة التغيير المناخي والمساواة العرقية ومكانة المرأة.
لكن على صعيد السياسة الخارجية ليس هناك من توقع بحصول تغيير ملموس. ففي ملف العلاقة مع الصين والملفات الآسيوية الأخرى وأبرزها الأزمة الكورية ليس هناك من تناقضات كبيرة بين الحزبين، أما بالنسبة للصلة مع روسيا والتوتر الملموس بين قوتي الحرب الباردة السابقتين، سيكون الرئيس دونالد ترامب ضحية التشكيك الدائم وسيبقى ملف “روسبا غيت” سيفاً مسلطاً من الكونغرس يمنعه من حرية الحركة لترتيب صفقات مع الرئيس فلاديمير بوتين، ولهذا ستكون اللعبة بيد المؤسسات الأميركية وعلى الأرجح سيسود التوتر وانعدام الثقة بين الجانبين مما سينعكس جمودا على الكثير من الملفات العالمية ومنها الملف الأوكراني، أو يعطي القوى الإقليمية حركة أوسع في الملف السوري مثلاً.
وفي ما يخص العلاقات مع الأوروبيين وباقي الحلفاء، يمكن للديمقراطيين أن يضغطوا في الكونغرس باتجاه إصلاح أضرار السنتين السابقتين. وفي الملفين الإيراني، والفلسطيني – الإسرائيلي لن يكون هناك من تغيير يذكر على نهج ترامب الحالي الذي ربما يشهد تعديلات طفيفة للتأقلم مع المتغيرات لا أكثر.
وتبقى الصلة المستقبلية مع المملكة العربية السعودية خاضعة لتعاون أو تجاذب ما بين البيت الأبيض والكونغرس من دون الاعتقاد أن هناك توجّها أميركيا لإعادة النظر بطابعها الحيوي لمصلحة الجانبين. ويمكن للبعض في الكونغرس أن يحاول تخفيف المساعدات عن مصر أو الضغط على السعودية، لكن وجود روسيا والصين في الميدان الإقليمي يمكن أن يردع هذا التوجّه، ناهيك عن تداخل ذلك مع الصراع الإسرائيلي – الإيراني.
تتغيّر الولايات المتحدة الأميركية ويتغيّر العالم. بعدما قادت واشنطن العولمة والثورة الرقمية، يقودها تصدع العولمة غير الإنسانية والانكماش نحو الهويات إلى رسوخ الترامبية مع تصدّر رئيسها ما أخذ يشبه النادي المغلق لرؤساء شعبويين من روسيا إلى تركيا والبرازيل وغيرها، وذلك في مواجهة ديمقراطيات تزداد هشاشتها وتتساقط مثالاتها ومنظومات قيمها.