روّجت اعتداءات 11 سبتمبر 2001 الشهيرة لفكرة داخل الولايات المتحدة تعتبر أن إيران حليف طبيعي لواشنطن والمجموعة الغربية ضد “الإرهاب السنّي” الذي يمثله تنظيم القاعدة وأخواته. لم يكن الأمر مجرد ترف أبجدي، بل أن الحربين اللتين خاضهما الأميركيون وحلفاؤهما ضد أفغانستان والعراق جرتا بتواطؤ كامل مع طهران. وعلى قاعدة هذه الأسس الإستراتيجية العقائدية انسحب هذا الخيار داخل الإدارات الأميركية المتعاقبة، وصولا إلى ولادة الاتفاق النووي مع إيران في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
قبل ذلك لم تصادم الولايات المتحدة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران. سهّلت واشنطن، بالتواطؤ مع باريس ولندن، انتقال الخميني لقيادة الثورة التي اندلعت ضد شاه إيران. كانت شروط الحرب الباردة تتطلب رعاية نظام إسلامي يقف بالمرصاد ضد الشيوعية (الملحدة) في الاتحاد السوفييتي، وما عدا ذلك، تفصيلات لا تدخل في الحسابات الأميركية. وحين كشفت عقائد الخميني عن عداء لـ”الشيطان الأكبر”، فاحتجزت دبلوماسييه في طهران وخطفت رعاياه في بيروت وفجرت ثكنة المارينز التابعة له هناك، لم يؤدّ ذلك إلى صدام مباشر تشنّه الولايات المتحدة الجريحة ضد إيران.
شكّلت فضيحة “إيران غيت” نموذجاً لطبيعة العلاقة الحقيقية التي تقارب بها واشنطن رؤيتها الإستراتيجية لإيران. كانت إيران أيام الشاه حليفا موثوقاً للولايات المتحدة وشرطيّها في منطقة الخليج. لم تبارح إيران هذا الموقع في الخرائط الأميركية، ولطالما اعتبرت الانتلجنسيا الحاكمة في واشنطن أن إيران، في جموحها الثوري المقلق، لا تهدد مصالح الولايات المتحدة في العالم، وأن سياسة “الاحتواء” التي مورست معها، كفيلة بأن تُبقي الحراك الإيراني محاصراً محدود الطاقات، فيبقى ضجيجاً يصمّ آذان الجيران، دون أن يربك الخطط الكبرى في واشنطن.
بدا أن أوباما تخرّج من هذه المدرسة. تواصلت إدارته مع النظام الإيراني، بحيث أتاحت خطوط مسقط استيلاد اتفاق وافق عليه المجتمع الدولي. بدا أيضاً أن روسيا والصين مستسلمان لتقاطع يجري بين طهران وواشنطن، وكأنه مسلّمة في العلاقات الدولية، سواء كان الحاكم في طهران شاها أم ولياً للفقيه. من تلك المسلّمة خرج أوباما ليقول للخليجيين أن أصلحوا أنظمتكم واذهبوا لتقاسم النفوذ مع إيران في المنطقة. لم يطلب من إيران أن تصلح نظامها ولا حتى أن تغير سلوكها. فهل تغير كل ذلك وانقلبت واشنطن على عقائدها في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب؟
قد نتساءل عن السبب الذي يقف وراء هذه العدائية اللافتة في خطاب ترامب ضد إيران. لا يعبّر الرجل عن رؤية فكرية ذاتية في هذا المضمار. فترامب، ومنذ أن كان مرشحاً للمنصب الذي فاز به، أطلّ على العلاقات الدولية على نحو مرتجل لا يتأسس على تراكم معرفي سابق، وبالتالي لا يمكن أن يكون مفجّراً لتحوّلات تاريخية في كيفية مقاربة بلاده لخرائط العالم. لم يفعل ذلك خريج هارفرد، باراك أوباما، فكيف لتاجر العقارات أن يُقدِم على ذلك. بدا أن المرشح- الرئيس الجديد يمثل وجهة داخل الدولة الأميركية العميقة بالتعامل بشكل آخر، أكثر ذكاء وخبثاً، مع إيران، ومع هذا النظام في طهران، على النحو الذي يعيده إلى المجال الإستراتيجي الأميركي وليس خارجه.
ليس صحيحاً أن ترامب هو من قوّض الاتفاق النووي، بدأ ذلك، للمفارقة، في عهد أوباما. تولت طهران عن طريق استدارة كبرى، أشرف عليها المرشد علي خامنئي، الشروع بمفاوضات لإبرام الاتفاق النووي. من أجل ذلك كان يجب أن يفوز حسن روحاني برئاسة الجمهورية، وهو صاحب الخبرة في التفاوض الدولي حول هذا الملف. ومن أجل ذلك كان يجب أن يتم الاتفاق أولا مع واشنطن، ومن خلال واشنطن، ذلك أن الهدف السامي هو إطلاق شراكة أميركية إيرانية في المنطقة. بدا أن أمر ذلك قد حصل في اتفاق فيينا عام 2015، وأن أوباما قد أبلغ في مقابلته الشهيرة مع صحيفة “أتلانتيك”، في مارس 2016، العالم والمنطقة طبيعة موقع إيران وطبيعة شراكة بلاده مع نظام المرشد في إيران، فـ”اذهبوا وأصلحوا أنفسكم وتشاركوا النفوذ في المنطقة مع إيران”.
لكن أوباما كان كاذباً، أو أن الدولة العميقة في بلاده أتاحت له مع إيران ما كان متاحا ومنعت عنه ما هو مستحيل. منّت طهران النفس بإفراج فوري عن أصول إيران المحتجزة، وعوّلت على تدفق الاستثمارات الأجنبية والإفراج عن آلية وصلِ أوردتها الاقتصادية مع الشبكات المالية والمصرفية الدولية. حصلت إيران على بعض هذه الأصول. تم رفع بعض العقوبات. ثم بدأت تشتكي من تباطؤ تنفيذ بنود الاتفاق. وتلاحقت اجتماعات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بنظيره الأميركي آنذاك جون كيري لحثّ واشنطن على رفع الفيتو عن الوصل المالي لإيران مع العالم.
لم تنتظر إيران طويلاً. كشفت واشنطن بوضوح حدود هذا الاتفاق ومهامه. خرج المتحدث باسم البيت الأبيض جون إرنست في أبريل 2016 مصرحاً بأن الولايات المتحدة تفي بالتزامها في ما يخص الاتفاق النووي، ومشيرا إلى أن السماح لإيران بدخول النظام المالي الأميركي لم يكن جزءا من الاتفاق. في هذا الوقت كان هناك مرشح للرئاسة في الولايات المتحدة يعتبر الاتفاق هو الأسوأ في تاريخ بلاده واعداً بتمزيقه في حال فوزه. وهذا ما حصل، فاز الرجل ومزق الاتفاق.
لا تريد واشنطن إسقاط النظام في إيران. تحرص الإدارة الأميركية على تأكيد ذلك، تارة على لسان وزير الخارجية، وتارة على لسان وزير الدفاع، وتارة على لسان مستشار الأمن القومي. تتحدث واشنطن عن تغيير سلوك هذا النظام واستجابته للشروط الـ12 الشهيرة التي أطلقها مايك بومبيو في 21 مايو الماضي لتفسير سرّ انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 8 من نفس الشهر. والواضح أن واشنطن لا تعمل على أي برنامج لإسقاط النظام الإيراني، وهي ستكون حريصة على أن تتمتع عقوباتها التاريخية ضد إيران بخواص ذكية تمارس من الضغوط على طهران ما يقودها إلى طاولة المفاوضات، وليس إلى سقوط وفوضى لا تحمد عقباها.
على هذا تمنح واشنطن استثناء لـ8 دول لمواصلة شراء النفط من إيران. أمر ذلك مؤقت محصور بـ180 يوما هي مدة كافية لاستدارة إيرانية جديدة صوب المعاهدة التي يريدها الرئيس الأميركي. لم يكن ترامب المرشح حين مقت الاتفاق النووي يتحدث عن معاهدة جديدة، ولم يكن يعلم بشروط 12 من أجل التوصل إلى ذلك. فالدولة العميقة التي وضعت لاتفاقية أوباما حدوداً، هي نفسها من تخترع لها ملاحق مكمّلة تستبطن أبعادا سياسية إستراتيجية تعيد رسم المنطقة، وتخترع لإيران وظائف جديدة داخل تلك الخرائط. فإذا ما تم ذلك، ولا يبدو أن أي دولة في العالم، سواء في أوروبا أو الصين أو روسيا، ستحولُ دون ذلك، فإن إيران ستعود صديقة لواشنطن وربما حليفة للولايات المتحدة، على نحو قد لا يبدو فيها أن عقيدة ترامب تبتعد كثيراً عن عقيدة أوباما.
هنا فقط يجوز السؤال: إذا ما حصلت واشنطن على ما تريد من إيران من خلال عقوبات ترامب التاريخية، ألن يعني ذلك أن شراكة أميركية – إيرانية قادمة في المنطقة؟