لم يخسر دونالد ترامب الانتخابات النصفية، لكنه بالتأكيد لم يُحقق فوزاً مريحاً يُمكّنه من الهيمنة، من دون هموم في العامَين المقبلَين المتبقّيَين من ولايته. ترامب مضطر للاهتمام أكثر فأكثر بحملته الرئاسية التي ستبدأ «بجدّية كبيرة» اليوم قبل الغد. نجح الحزب الجمهوري في حصد الأغلبية في مجلس الشيوخ لأن الانتخابات النصفية دارت في ولايات محسوبة على الحزب أساساً. لا شك أن حملته تحت شعار «أميركا أولاً» وضد المهاجرين بما فيها المواجهة عبر المكسيك، أنتجت فوز «الجمهوريين» في وقت يناسبه كثيراً لأن الثلاثة البارزين والمنتقدين له بقوّة سيتقاعدون. ترامب سيصبح «أكثر هيمنة» داخل الحزب. بدأ من اللحظة الأولى لظهور النتائج في تأكيد توجّهه هذا عندما ألقى مسؤولية فشل بعض المرشّحين الجمهوريين على حملتهم التي ابتعدوا فيها عن «خطابه» بدلاً من الحماسة له.
ترامب الرئيس والمرشّح القادم «سيبقى كما هو»، خصوصاً أن الهيئة البرلمانية المُتشكّلة تميل بدرجة أبرز للسياسات المحافظة، ما يعني أن القاعدة ستكون أكثر توحداً حول خطابه الاستفزازي وبرنامجه المتشدّد.
قوّة ترامب الانتخابية القادمة، كما يمكن قراءتها من المسار الشعبي للاقتراع أبرزت أن مشكلة مهمة يعاني منها «الحزب الديموقراطي» هي عدم وجود منافس كبير منه لترامب يمكّنه من الآن قيادة حزبه بقوّة نحو الانتخابات. افتقاد المرشح الديموقراطي القوي، يُسهّل كثيراً من ظهور القوّة والاستقواء عند ترامب. النواب الديموقراطيون يستطيعون فرملة ترامب وطموحاته، إذا عرفوا ونجحوا في إدارة المواجهة داخل المجلس، الذي يحوزون فيه على أغلبية مريحة لهم لأوّل مرّة منذ عشر سنوات. إثارة القضايا ضدّه إلى درجة الدفع نحو محاكمته يضع «العصي» في «دواليب» ترامب، ويعرقل مسيرة صعوده نحو الولاية الثانية. يتوقف النجاح في هذه الحملة على نوعية الملفات وطبيعة الاتهامات فيها.
من المهم التأكيد على التحوّل الذي أفرزته الانتخابات، إذ إن فوز النساء بأغلبية ضخمة من المقاعد يؤكد أن تحوّلاً عميقاً قد حصل داخل المجتمع الأميركي.
كما أن سقوط بعض الوجوه العنصرية يؤشّر إلى تدفق «المياه» في «طاحونة» التغيير. أيضاً وهو مهم جداً أن عدداً مهماً من الفائزين خصوصاً من النساء معادون للعنصرية ليس فقط بالموقف وإنما بانتمائهم إلى قادمات وقادمين من الدول المفروض أن ترامب ومعه كل المحافظين المتشددين لا يريدونهم. فوز الصومالية المحجّبة إلهان عمر والفلسطينية رشيدة طليب، يمثّل وقفة جديرة بالاهتمام والمراقبة، لتقدير مدى التحوّل الذي يعيشه المجتمع الأميركي خصوصاً خلال الانتخابات التشريعية القادمة.
بقاء ترامب «كما هو»، يعني أنه سيتابع سياسته الخارجية من دون قلق كبير من الداخل الأميركي. الأميركي العادي الذي اقترع وسيقترع بعد عامَين أو أقل، لا يعنيه كثيراً تفاصيل السياسة الخارجية والمواقف منها. المعركة ستكون داخل الكونغرس وتبعاً لطبيعة الحملات ونوعية الأحداث المؤثرة.
من الصعب جداً الحديث عن تغيير عميق يطال ملفات السياسة الخارجية، وبخاصة المشتعلة منها، خصوصاً أن «للبنتاغون» موقعاً ودوراً في صياغة المواقف بحيث لا يمكن تجاهله مهما بلغت سلطات الرئيس ترامب من قوّة. الملفات المشتعلة الأساسية ستكون حاضرة بقوّة في البيت الأبيض. العلاقات مع روسيا وتحديداً مع الرئيس فلاديمير بوتين مهمة جداً. يجب مراقبة قمة 11 نوفمبر في باريس بدقّة، لتحديد مستقبل هذه العلاقات وقدرة ترامب على مواجهة ترددات الداخل خصوصاً في الكونغرس الذي سيجد في هذا الملف فرصة كبيرة للتضييق على ترامب. وهذا التضييق سيستند على ملفات طُرحت سابقاً وسيتم تكثيفها لاحقاً، ويستطيع الكونغرس أن يُضيّق على الرئيس سواء في تكثيف جلسات الاستماع تحت القسَم أو الاستدعاءات.
بلا شك سيبقى ملف إيران والعقوبات عليها في مقدمّة الملفات المشتعلة. باعتراف معظم الخبراء والمراقبين. يوجد إجماع من «الجمهوريين» قبل «الديموقراطيين» على تنفيذ قرارات المقاطعة والعزل. ما يزيد من التشدد أن ترامب سيرفع صوته أكثر فأكثر خلال حملته الانتخابية في وجه إيران معتمداً في ذلك على تحقيق هدفَين في آن واحد: عزل إيران والضغط عليها اقتصادياً بهدف «خنقها»، عبر رفع نسبة التضخم ورفع أسعار العملة الأجنبية باتجاه إثارة الاستياء الشعبي العام. وفي الوقت نفسه الحؤول دون ارتفاع سعر النفط عن طريق ترك «حنفيات مشروعة» لتسريب بعض النفط الإيراني لكل من: الصين والهند وتركيا وكوريا الجنوبية وإيطاليا.. طهران مجبرة الآن على إعادة حساباتها في المواجهة مع واشنطن، لأن المواجهة مع ترامب لمدة عامين تختلف عن ست سنوات.
ماذا ستفعل طهران، هل تستمر في سياستها «الحسينية» فتتشدد مباشرة أو بالواسطة في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن، أم تلجأ الى نهج الإمام الحسن (ع) فتفاوض وتصالح، لتستقر الأوضاع في منطقة يحق لها أن تنعم بالأمن والاستقرار والتعاون الحسن؟!
المعالجة السريعة، وإنهاء الحرب سيُنتج انكفاء إيرانياً مهما بلغ حجم حضور الحوثيين في السلطة مستقبلاً، لأنهم بالتأكيد وإن حازوا على نسبة معيّنة منها فإنهم لن يتمتعوا بفرض إرادتهم كاملة على صنعاء وبالتالي على «باب المندب».
أخيراً التمدد الأميركي في سوريا عبر قاعدة «التنف» سيبدو انعكاسه في التفاهمات الروسية – الأميركية – التركية لاحقاً. لذلك من المبكر الحديث بدقة عن طبيعة التعامل الأميركي مع الملف السوري علماً أن تحولاً مهماً بدأ يظهر في المواقف الدولية والتي كان آخرها القرار الفرنسي في تحويل علي المملوك وجميل الحسن أمام القضاء.
مهما حاولت قوى كبرى أو متوسطة أو مدّعية محاربة الوجود الأميركي على مساحة العالم فإنها ولفترة طويلة ستبقى القوّة المركزية في هذا العالم، وما تخططه وما ترسمه من مسارات وتنفّذها، وما يصيبها من قوة وضعف سيبقى لفترة طويلة حالة كونية لا يمكن تجاهلها.