خيضت الانتخابات النصفية الأميركية "الميدتيرم"، وخصوصاً من ناحية الديموقراطيين، كاستفتاء على دونالد ترامب من بعد عامين على وصوله إلى البيت الأبيض لم يتوقّف فيهما النزيف الحاصل في إدارته، من دون أن تفتُر الرابطة التي تجمعه بـ "الحزب الجمهوريّ"، الذي ليس لترامب باع طويل في الانتماء إلى تقليده السياسي، بل هو من جملة من تذبذب مطوّلاً بين الحزبين.
ما حصل بالنتيجة، أنّه بدلاً من استفتاء واحد حصل استفتاءان. بنتيجة ظفر كل حزب بأكثرية أحد المجلسين في "الكونغرس"، الشيوخ للجمهوريين "الحمر" والنواب للديموقراطيين "الزرق"، لم تتحوّل الانتخابات إلى استفتاء "أنتي ترامب" على ما كان الأكثر حماسة بين الديموقراطيين يمنّي النفس. صارت، بدءاً من تركيبة التشكيلة الديموقراطية الحالية، استفتاء داخل هذا "المعسكر التقدمي - الموزاييكي" على الطريقة الأميركية، على الأسلوب الجدير بالمتابعة من الآن حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد عامين. مع هذا "الميدتيرم" باتت زعيم الأقلية سابقاً، زعيم الأكثرية حالياً، نانسي بيلوسي، الأوفر حظاً لتولي رئاسة مجلس النواب، وهي تمثّل "ماينستريم" الحزب، والرأي الذي يعتبر أنّ على الديموقراطيين أن يظهروا حيوية تشريعية تمنحهم زخماً يمكن جني ثماره في الرئاسيات المقبلة، وأنّه لا ينفع كثيراً الاستغراق في السلبية ومحاولات "عزل" ترامب، إذا ما بقيت محاولات محصورة بحزب واحد.
هناك إذاً رأي بات يعي بأنّ المبالغة في "الفوبيا" من ترامب لا تدرّ ربحاً وفيراً، بخاصة حين تصير الأكثرية للديموقراطيين في مجلس النواب، من دون مجلس الشيوخ. مع هذا، ثمة عدد لا يُستهان به من الديموقراطيين المنتخبين يعوّلون على الخيار المعاكس، أي تصعيد الموجة "الأنتي ترامبية"، وتكثيف التحقيقات البرلمانية سواء بخصوص ملف التواطؤ بين طاقم ترامب والروس، أو حول قضايا تخص الإنفاق العام، أو تداخل المصالح العامة والخاصة بين ترامب وأفراد عائلته وبين ما للدولة، وكل هذا يمكنه أن يستدعي موظفين في إدارة الرئيس إلى المثول أمام لجان استماع وتحقيق برلمانية، ناهيك عن النبش في بريدهم الإلكتروني وبياناتهم الشخصية، وتقديم مادة سجالية يومية حتى موعد الرئاسيات القادمة.
على هامش هذين الخيارَين، تبرز التعددية الإثنية والجندرية أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً عند الديموقراطيين، فهذا الكونغرس يضم أعلى نسبة من النساء في تاريخ الولايات المتحدة، وتعزّز فيه حضور الأقليات الدينية والجنسية على حد سواء. هذا "الموزاييك" الذي يبرز قصصاً مفردة وجذابة لمرشحي الأقليات، ساهم في فوز الديموقراطيين بأغلبية النواب، بخلاف من كان يرى أن الاستغراق في "سياسات الهوية" ليس مربحاً. كان مربحاً، بدليل النتيجة. السؤال المؤجّل لعامين هو إذا كان هذا الربح، بهذه الخلفية، يحمل في طيّاته بذور تخلّعه، خصوصاً حين يتوجّب تلخيص كل هذا الموزاييك الديموقراطي في مرشح واحد يُنازل ترامب بعد عامين.
منازلة ترامب؟ لأنه عملياً، الاستفتاء المفتوح على عامين من الإجابة من جهة الديموقراطيين، حسمه الجمهوريون بالأمس لصالح ترامب. على ما يوضح جيرالد سايب في "الوول ستريت جورنال" ما كان يحتاجه ترامب هو أن يتفادى الكارثة، كارثة "تسونامي" ديموقراطي، وفي هذا نجح، وأن المشهد الحالي هو مشهد قسمة عميقة للأميركيين بين الحزبين، بما يجعل الجمهوريين يوالون ترامب أكثر فأكثر. خسر الجمهوريون أكثرية النواب، لكنهم عززوا أكثريتهم في الشيوخ.
عندما يكون حزب مُسيطراً على المجلسَين معاً تظهر انقساماته أكثر مما قد يحصل عندما يكون لحزب الأكثرية في الشيوخ، والآخر الأكثرية في النواب. عملياً، بالأكثرية المحسّنة لهم في الشيوخ، صار بإمكان الجمهوريين تسمية القضاة الإتحاديين براحة أكبر، والحيوية التشريعية للديموقراطيين في مجلس النواب تقضي التعاون مع الجمهوريين، وإلا صدّ مجلس الشيوخ معظم مشاريع القوانين. محاولة جعل النصفية استفتاء ضد ترامب فشلت. لا سيّما أن الديموقراطيين بدوا في حالة تسليم ضمنية بأن الاقتصاد تحسن في العامين الماضيين، بصرف النظر عن كل حدّية التعبئة ضد ترامب وأهليّته لتولّي الرئاسة وفظاظته، وضدّ سياسته الضريبية وسياسته تجاه الهجرة. بعد هذه النصفية، صار من شبه المسلّم به أن ترامب ماضٍ إلى المنازلة الرئاسية عام 2020، والجمهوريون أكثر انسجاماً معه من قبل، على الرغم من إعادة تدوير "ميت رومني" في مجلس الشيوخ، وهو المعروف بسلبيته تجاه ترامب.
ولعلّ العلامة الفارقة في كل هذا "الميدتيرم" هو في الاستفتاء في فلوريدا على منح التصويت من الآن فصاعداً لمليون ونصف المليون كانوا محرومين منه لقضائهم عقوبات سجنية سابقاً، الأمر الذي يرفع نسبة الناخبين الميّالين للحزب الديموقراطي عام 2020، في هذه الولاية المفصلية عند كل موسم رئاسي. وهذا غيض من فيض مفارقة أكبر، أنّنا أمام انتخابات مسكونة من ألفها إلى يائها بالتحضير للانتخابات المنتظرة بعد عامين، بل إنّ "الميدتيرم" يدشّن الكرنفال الأميركي والكوني من الآن فصاعداً للرئاسيات. هذا "الاستلاب" بالانتخابات التي تحضّر لانتخابات بعدها تحضّر هي الأخرى انتخابات بعدها، يطرح إشكاليات أخطر من دوامة الحديث عن صعود اليمين المتطرف تارة، وعن انتعاشة اليسار المزركش تارة أخرى.