إبنتي الغالية، اختنقتُ... لم أستطع أن أكلّمك وأشرح لك، هربت لأكتب لك ما صمتُّ عنه في البيت، وأعرف أنك عندما تكبرين ستقرأين وستفهمين، وأتمنّى أن تعذريني لأنني كنت جباناً صامتاً.
إختنقتُ عندما رأيت ظلال يديك الصغيرتين تتراقص على ضوء الشمعة وأنت تحاولين تثبيت الكلمات المتمايلة على صفحة دفترك، وأنا لم أعرف كيف أشرح لك بكلام الصغار عمّا تقترفه أيدي الكبار، لأنني كنت قد اقتنعت أننا تخطّينا عهود الشموع وآلام نورها الأصفر الخافت.
لا يا بابا، الانترنت ما بيمشي على الشمعة، ولا المايكرويف، ولا التلفزيون ولا حتى لعبتك الكهربائية... لا يا بابا، ما في شي بيمشي عالشمعة، يَلّي بيمشي هي ذكريات الحرب وأزيز الرصاص ودوي القذائف، يَلّي بيمشي عالشمعة هي ذكرى صوت أمي الهاربة من خوفها عليّ... ما بيمشي عالشمعة سوى لون رعبنا من الظلام، ورائحة ملابسنا الصغيرة المبلّلة بدموعنا، وشقائنا كل مساء لحفظ دروسنا المتّشحة بالأصفر... ما بيمشي عالشمعة إلّا منظر الخبز المنقّط بالأزرق وطعم علب اللحمة التي كانت تأتينا إعاشات، وإحساس حرام الصوف البنّي الذي كان يخدش براءة جلدنا، وصوت نبأ تجدّد الاشتباكات في الأحياء وعلى التقاطعات.
تسألين دائماً لماذا أغيب عنك كلّ ساعات اليوم في العمل، وأجيبك أنني أغيب لأبحث لك عن أجمل هدايا... لكنني كذبت، فقد كنت أربط الفجر بالنجر لأحاوطك بجنّة حَرمتني منها الحرب، جنّة اكتشفت أمس أنّ شموع جحيم هذا البلد تحرق زرقة أطرافها وتشوي ملائكتها الكافرة.
كذبت عليك كثيراً، فهذه الشمعة البيضاء لا نستعملها فقط في مزار سيدة لبنان في حريصا أو على مزار مار الياس في أوّل الطلعة.. هذه الشمعة هي خطيئتنا التي نحاول حرقها مع كمشة نذورات وبيتين مسبحة، لكنها تقفز علينا من جارور المطبخ لتشعل ذكرياتنا الأليمة، وتحرق أعصابنا وأحلامنا وآمالنا وحاضرنا ومستقبلنا، ومعهم بلادنا.
إبنتي الحبيبة، أنا أكره جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأحمد فارس الشدياق، أكره الفينيقيين وطائر الفينيق، وأكره قلعة بعلبك وخليج جونية والأرز وترابه إذا كان أغلى من الدهب، وأكره الكشك والمكدوس والمجدرة، وأكره بياض صنين ولبنان الأخضر والعنزة ومرقدها، أكره ذكراهم وأنا فاشل، وأكره إنجازاتهم وأنا فاشل، وأكره إبداعاتهم وأنا فاشل، وأكره نفسي بسبب تقصيري ولا أستطيع تخايل أي شيء في هذا البلد عاش في عصر الشمعة... أحبّ الكهرباء المشعشعة والمياه الدافقة والاتصالات السريعة، وأحلم بغدٍ نصنع مجده نحن، ولا أطيق العيش في حاضر تبكي فيه تطلعاتنا على أطلال كل هؤلاء.
إبنتي العزيزة، لا أعرف بعد عشر سنين إذا كنت ستقرأين هذه الكلمات على ضوء الشمعة أو ربما على شرقطات حجر الصوّان، لكن لا بد أن تعرفي أنّ وضعنا نحن اللبنانيين مثل الكمّون، موعودين.. خلقنا موعودين، وكبرنا موعودين، ونحمل نعوشنا موعودين.. موعودون بلمبة لا تغار من شمعة، وحنفية لا تحسد غالون مياه من بلاستيك، وطريق شُفِيَت من جدري الماء، وتراث وثقافة وحريّة تخلّصت من إصابتها بالإمساك.
أنا مستعدّ ضَوّيلِك صَابيعي العشرة، لكنني لا أحتمل إشعال شمعة بعد اليوم، فكلّما أدفن الحرب داخلي يهجم رجال دولتي ليبعثوها من جديد.
تعالي ننام باكراً، فليس الأولاد وحدهم من سينامون الليلة باكراً بل أهاليهم أيضاً، لأنّ الكبار يريدون أن يهربوا إلى مخدّة بيضاء، يريدون أن يحلموا كالصغار بيوم ينتهي فيه عهد الشمعة، ويأتي عهد قوي، أمنه لا تَتهدّده ميليشيات، وكهرباؤه لا تصادرها ميليشيات، ومياهه لا تنهبها ميليشيات، وغده غير مصلوب على خشبة ميليشيات.