في العام 2016 وعلى مسافة أيام من تشكيل الحكومة (المستقيلة) ، إنطلقت حملة إعلامية تتهم الوزير نهاد المشنوق بالتنسيق مع النظام السوري وبعلاقته مع المسؤول الأمني فيه علي المملوك ، ليتضح لاحقاً أن مصدرها بعض المستشارين في بيت الوسط وشملت يومها مواقع سورية وعربية ولبنانية ذات صلة بأحد "الصقور" المحيطين بالرئيس سعد الحريري تولاها أصدقاؤه عبر وسائل التواصل الإجتماعي ، وهي إنتهت لأنها لم تلقَ أي تفاعلٍ في الإعلام الجاد ، ولأنها لم تفلح في منع توزير المشنوق في الحكومة.
لا يعني هذا أن المشنوق لم يرتكب الأخطاء أو أنه يحظى بشعبية عارمة ، لكن الحقيقة أنه رغم كل الثغرات والحملات ، يبقى الأكثر قدرة على التعبير عن الواقع السياسي بسلبياته وإيجابياته ، ولهذا فإن سُنّة بيروت والمناطق الذين يكيل كثيرون منهم الإنتقادات للمشنوق يدركون أنه في الأزمات يتمكن من حياكة تسويات معقولة بدل سقاطات التنازل القائمة بدون حساب ، ومن هنا جاء الإستقبال الحاشد له في جولته البقاعية.. ورغم كل ما قيل عن "الهاشتاغ" الذي حمل تسمية "ضمير السنة" إلا أنه أثبت قدرة المشنوق على المناورة السياسية والإعلامية المعلنة والمضمرة.
يعاني المشنوق من ضعفٍ في قدرته على تسويق نفسه وهذا يسهّل على خصومه إستهدافه ، لكنهم من شدّة مغالاتهم وشططهم يجعلون إتهاماتهم قيد السقوط التلقائي ، خاصة عندما تجانب الواقع .
وكمثال على ما نورد ، جرى إتهام المشنوق أنه "سلّم" بلدة الطفيل وهجّر أهلها. والواقع أن سكان تلك البلدة المدنيون كانوا عُزّلاً ولا يملكون أي إمكانية للدفاع عن أنفسهم وحفظ وجودهم لأنهم حوصروا من قوات النظام السوري و"حزب الله" وهم في جزيرة معزولة وكانت الإبادة مصيرهم المحتم لولا تنظيم خروجهم تحت غطاء الدولة وبحماية الجيش اللبناني.
• تقرير "مخابراتي لقيط"
تجري اليوم إعادة صياغة تلك الحملة تحت شعار "تقرير مخابراتي بريطاني" من دون أن يحمل هذا التقرير المزعوم أي مرجعية علمية ، أي أنه لقيط على قارعة الإعلام ، بحيث أنه لا يصلح أن يكون مصدراً معتبراً في مقاربة إعلامية أو سياسية موضوعية.
تحت عنوان "المخابرات البريطانية تكشف إختراقاً في الحلقة الضيقة لرئيس حكومة لبنان.. نظام الأسد ينسج علاقاتٍ سرية مع وزير مقرب من الحريري" تمّ تداول مقال عبر بعض المواقع ووسائل التواصل الإجتماعي جاء فيه أن الوزير المشنوق هو المقصود بالعنوان وأنه ساعد في كسر الحصار المالي المفروض على بشار الأسد وقدم له خدمات كبيرة في هذا المجال..
• هل يعلم الحريري؟ ولماذا لا يفصل المشنوق؟
هنا تبرز أسئلة كثيرة ، منها:
ــ ما هو المصدر الحقيقي لهذا التقرير ، وهل حقاً أصدرت المخابرات البريطانية تقريراً من هذا النوع ولماذا لم نجده في أمهات الصحف ووسائل الإعلام الجادة.. ألا يفترض أن يضجّ به الإعلام اللبناني والعربي والدولي لو أنه يمتلك الحدّ الأدنى من المصداقية؟
ــ لماذا ينحصرُ ترويج هذه التسريبات في مجموعة محدّدة من المعادين للمشنوق و"يصدف" أنهم مقربون من أحد "الصقور" في بيت الوسط ، ولماذا لا تشمل الإنتقادات وزراءَ ونواباً آخرين في التيار لا يمكن تجاهل أخطائهم ومساراتهم الفاشلة التي إنكشفت بشكلٍ خاص في الإنتخابات النيابية الأخيرة؟!
• أين موقع المسؤولية ؟
هل كان نهاد المشنوق يتولى الأمور في وزارة الداخلية منفرداً ، أم أنه يمثل تيار المستقبل في السياسة العامة ؟ ألم تكن هناك شراكة واضحة للرئيس الحريري ومسؤولي تياره في شؤون وزارة الداخلية ، وكانت هناك سياسة عامة يلتزم بها وزراء التيار في أي وزارة كانوا ، كما أن للرئيس الحريري ومن يمثله مداخلاتهم التي يعرفها الجميع ، وبالتالي هل يمكن تحميل المشنوق منفرداً تبعات السياسات المتبعة في وزارة الداخلية أم أن قيادة تيار المستقبل شريكة في الغنم والغرم كما يقتضي المنطق؟!
• هل "تصفية" المشنوق سياسياً يحلّ أزمة الحريري ؟
لنفرض جدلاً أن سلوك نهاد المشنوق السياسي خطأٌ كله ، فهل ستكون مشاكلُ الحريري وتيار المستقبل قد إنتهت وإستقام أمره في حال إبعاد المشنوق وتصفيته سياسياً؟
لو أن المشكلة في المشنوق وحده ، لماذا تطاير من حول الحريري أشرف ريفي وصلاح سلام ورضوان السيد وكاتب هذه السطور ومئات من القيادات والكوادر التي باتت خارج السياق وتحوّل الكثيرون منهم إلى معارضين لنهج الإنهيار الحاصل.. أم أن المطلوب بقاء الحريري محاصراً بالمجموعة "الشيعية – المسيحية" من حوله وإقصاء السنة من محيط ممثل السنة في الحكم ، على مختلف توجهاتهم؟!
• توقيت الحملات ولماذا يبقى المشنوق؟
لماذا لا تظهر مثل هذه التسريبات إلا عند الإستحقاقات الهامة ولإعاقة المشنوق قبيل الإستحقاقات المفصلية ، وهل كانت الحملة الراهنة لتكون بهذا العنف لولا وجود مؤشرات مقلقة لدى خصوم المشنوق من تقدمه السياسي في هذه المرحلة؟
إذا صحّ ما تمّ تسريبه حول علاقة المشنوق بعلي مملوك منذ العام 2016 ، فلماذا لم يقم الرئيس الحريري بفصله من تيار المستقبل منذ ذلك الحين ، وهل يعقل أن لا تكون لديه معلومات حول هذا الملف ، وفي هذه الحال ، لماذا أبقى الحريري المشنوق على لائحته النيابية في الإنتخابات الأخيرة ، ولماذا يستمر في الصمت ، تاركاً المجال لعودة الصراعات داخل مراكز القوى في تيار المستقبل؟
ألا يصحّ في هذا المقام التذكير بشطر البيت القائل: إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظمُ؟!
• إشكالية العلاقة بـ"حزب الله"
هل العلاقة مع "حزب الله" محصورة بالوزير المشنوق ، أم أنها جاءت في إطار إنفتاح الرئيس سعد الحريري على الحزب وخوض ما يزيد عن 45 جولة حوار رسمية كانت كفيلة بترسيخ قنوات التواصل وفق هوامش مناورة محسوبة في مختلف المراحل ، فلماذا التركيز على علاقة المشنوق وحده بـ"حزب الله" وكأن نادر الحريري وسمير الجسر وغيرهما لم يكونا في أساس بناء العلاقة مع قيادة الحزب وتصريحات الجسر الناعمة خير مؤشر على ما تمّ بناؤه في هذا المجال؟
• أين مناط المسؤولية؟
هل يعتبر نهاد المشنوق مسؤولاً عن التنازلات الخطرة التي قدّمها الحريري في الدولة وفي التخلي عن الصلاحيات للرئيس ميشال عون ولـ"حزب الله" وهل هو من أجبر الحريري على إعطاء رئيس الجمهورية فرصة ترؤس أكثرية جلسات مجلس الوزراء وحصر عرض قرارات التعيين في الجلسات المنعقدة في قصر بعبدا مما سمح للرئيس عون بالقول إنه يتعذّر عقد مجلس الوزراء من دون ترؤسه له ، وفي هذا إشكالية كبرى تحدث عن مخاطرها مقربون من الرئيس الحريري علناً ومنهم الزميل علي حمادة!!
هل نهاد المشنوق هو من أطاح بالوجود السني الفاعل في القضاء وفي هيئة "أوجيرو" وبمجمل التوازن في الدولة؟
• إنهيار المؤسسات السنية: هل السنة بخير؟
إذا كان أهل السنة في لبنان بخير تحت قيادة الحريري فلماذا تنهارُ مؤسساتـُهم بشكلٍ غير مسبوق ، وتتـقـهقـرُ صروحٌ عريقةٌ مثل المقاصد ، ولماذا يصبح السنة بلا ظهير في الدولة ، بينما تواصل الطوائف الأخرى حماية أبنائها ، وتتقدم مؤسسة مثل "لابورا" لتدفع نحو تدعيم الحضور المسيحي في الدولة ، فضلاً عن تمتـُّع الطوائف الأخرى بحصاناتٍ وحصص بعضُها ثابت ، وبعضها الآخر يغتصبُ مواقعَ غيره ، بينما يقف المسلمون السنة متفرجين على ضياع مكتسباتهم وإنهيار مواقع التحصين الإجتماعي والصحي والإنساني لديهم..
وهنا نذكر بأن التوازن الوطني هو جوهر الوحدة اللبنانية وأي تنازل أو إخلال فيه سيؤدي حكماً إلى ضرب التركيبة وإهتزاز الإستقرار ، وهذا ما نخشاه في حال التمادي بإستهداف التوازنات المنظمة في الدستور والقانون.
• هروبٌ إلى الأمام
لماذا الهروب من مواجهة حقيقة المأزق السني في القيادة بإلقاء اللوم على فؤاد السنيورة تارة ، وعلى أشرف ريفي تارة أخرى ، وعلى نهاد المشنوق طوراً ، مع ما بينهم من التناقض أوالتقاطع ، ولماذا تجاهل أهمية إستجماع الصف السني ؟ وكيف يمكن الإستمرار في هذا المسار الذي لا يستقر على قعر؟
• أخيراً ،
إن الطموح في السياسة أمرٌ مشروع للجميع لكن يجري إعتراضـُه وفق صراعات المصالح ، وقد بدأت مقدماتُ إحراج المشنوق لإخراجه رغم أنه كان الوحيد الذي رفض مبايعة السيد بهاء الحريري خلال أزمة الإستقالة وأطلق مقولته من دار الفتوى "لسنا غنماً.. والكتلة خلف زعيمها الوطني (سعد الحريري)".
ومع هذا فإن قبول المشنوق أي تكليفٍ لتشكيل الحكومة بدون تفاهم مع الحريري يحمل مخاطر كبرى لا يمكن تجاهلها ، ليبقى الحلّ العودة إلى ضرورة التراجع عن سياسة الإقصاء والتهميش المتبعة من الحريري وإعادة التوازن بوجوده على رأس تيار المستقبل وكتلته وبإعتباره صاحب التمثيل السني الأوسع بالتعاون مع القيادات والشخصيات السنية الفاعلة ، قبل وقوع التشظي الكبير وساعتها لات ساعة مندمِ!