لم يكن في مقدور الأنظمة العربية والقوى المسيطرة عليها ان ترتاح الى هذا الحد في اغتيال الصحافيين وقتلهم من دون أي رادع، لو لم يكن الإعلام الذي تموله، شريكاً لها في القتل المعنوي قبل الجريمة وتمييع الحقائق بعدها.
في هذا الاطار، جاء مؤتمر منظمة الأونيسكو للبحث في "التعاون الإقليمي لإنهاء الإفلات من العقاب للجرائم ضد الصحافيين في العالم العربي"، ليقر بانتصار القتل على العدالة وعلى حق الشعوب في المعرفة. فقد بلغ عدد القتلى الصحافيين والعاملين في مجال الإعلام أثناء أدائهم مهام وظائفهم، خلال الأشهر الـ10 الأولى من العام الجاري، 106 أشخاص.
كما انه وفي 9 حالات من أصل 10 يبقى الفاعل بلا عقاب، وانه خلال السنوات الإثنتي عشرة الاخيرة (2006 – 2017)، قتل ما يقارب 1010 صحافيين وهم يؤدون عملهم بنقل الأخبار والمعلومات الى الناس.
وبحسب الإحصاءات، استأثرت المنطقة العربية بجريمة قتل 338 شخصاً خلال الفترة المذكورة، مع نسبة 1.5٪ فقط من الجرائم ضد صحافيين في المنطقة يتم حلها، لتستأثر أيضاً على أعلى معدل للإفلات من العقاب بين مختلف مناطق العالم.
المفارقة ان المنظمة طالبت الدول الأعضاء بتنفيذ تدابير محددة لمواجهة ثقافة الإفلات من العقاب الحالية. علماً انها، ومعها العالم أجمع، على يقين ان هذه الدول الأعضاء او القوى المسيطرة عليها، هي التي ترتكب جريمة قتل الصحافيين وبدم بارد وبوعي فائق لمفعول إخراس المعلومة التي تهدد وجودها.
اشارة المنظمة الدولية الى ان الافلات من العقاب يهدف الى زعزعة مجتمعات بكاملها من جرّاء إخفاء انتهاكات خطرة لحقوق الانسان والفساد والجرائم، لا يعالج المشكلة، ولا يغير من فظاعتها. فهذه الجريمة، تحديداً، هي في نسيج سياسة الدول ومن يسيطر عليها.
عندنا في لبنان لم يكن اعتباطياً اغتيال جبران تويني وسمير قصير ومحاولة اغتيال مي شدياق في مرحلة اقل ما يقال فيها انها كانت يمكن ان تقود الى نظام لبناني جديد لا مكان فيه لما نراه اليوم.
في هذا الاطار وحده دون غيره، جاءت هذه الجرائم الواضحة الأهداف. فقد أراد من ارتكبها ان يخدم مشروع ولي أمره، الذي كان بدأه بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بعدما اكتشف ان ارتددات الجريمة تكاد تطيح المحور الذي يخدمه، من خلال الاعلام. وليس أي اعلام، الاعلام الذي كان يعمل على الأرض مع أكثر من نصف الشعب اللبناني، وعبر المهنة ويملك بالتالي القدرة على تفعيل الحالة الشعبية الناشئة حينها.
الاغتيال كان للقضاء على صوت يدعو المسلمين والمسيحيين للبقاء موحدين الى أبد الآبدين دفاعاً عن لبنان العظيم، وكان للقضاء على قلم يستطيع ان يفعّل ارتباط ربيع بيروت بربيع دمشق، وعلى وجه يطل عبر شاشة ويقول ما كان ممنوعاً قوله ليحرك الشارع ويحرضه على رفض الجريمة ورفض النظام الذي ارتكبها وتغيير لبنان ونقله الى ضفة لا تشبه كل ما يجري حوله، بل تتناقض وإياه وتفضحه.
اغتيال هذا الاعلام تحديداً آنذاك، ساهم فيه اعلام مأجور كان يحضّر للجريمة بتنسيق كامل وبالتعاضد والتضامن مع المرتكبين.
لا حاجة لمؤتمر لنتبين ان المطلوب بعد الجرائم المتعاقبة في حق الاعلام والإعلاميين، ان تتحول الشاشات في لبنان الى منابر لمن يقول ان البلد طائفي، بالتالي المحاصصة الطائفية مبررة، وان السياسيين هم كائنات طائفية يريدون حصصاً يدّعون انها لجماعاتهم، والحجة استحالة الغاء الطائفية السياسية كما ينص الدستور اللبناني.
الأمر منفر ووقح، لم نشهد له مثيلاً حتى خلال الوصاية السورية، وحتى خلال الحرب الأهلية وشعاراتها المدمرة، لم يكن يجرؤ أي طائفي من زعماء الأحزاب الطائفية ان يطل على الشاشات ليعترف بأن لبنانيين ناجحين في امتحانات مجلس الخدمة المدنية ممنوع ان يتوظفوا على رغم القانون القاضي بإلغاء الطائفية في الوظيفة لما دون موظفي الدرجة الأولى.
عندما يطلع ممثل للشعب ويقرّ بأنه يخالف القانون لا يجد اعلاماً يحاسبه، بل يروج له، يصبح قتل الصحافيين الذين يخرجون عن هذا السياق مفهوما.
ويصبح مفهوماً ان المطلوب هو اغتيال الاعلام بحد ذاته، ومعه أي محاولة من محاولات التعبير الحر عبر ملاحقة من يجرؤ على انتقاد النظام الشمولي الجديد، وإن بكلمة او تغريدة.
لا تكفي التصريحات بأن "مكافحة الإفلات من العقاب في صلب النضال من أجل حماية حقوق الإنسان"، وبأن "الآليات المحلية على مستوى الدول غير كافية في هذا المسار، وثمة حاجة إلى آليات تحقيق دولية للجرائم ضد الصحافيين".
الآليات لم تعد تجدي نفعاً، وربما آخر عدالة دولية كانت المحكمة الخاصة بلبنان لإدانة قاتلي الرئيس الشهيد رفيق الحريري. بعدها لا عدالة دولية على ما يبدو، لأن اغتيال الاعلام اعطى نتائجه المرجوة في المرحلة الراهنة.
كل الجرائم المرتكبة في سوريا في حق الصحافيين ترمي الى هدف واحد، منع الاعلام الدولي من المخاطرة بتغطية الجرائم التي ارتكبها النظام الاسدي في حق شعبه والاكتفاء بمراسلين محليين اذا قتلوا لا أحد يسأل عنهم، واذا اوردوا اخباراً غير دقيقة لا أحد يتحقق. ولا رأي عاماً عالمياً يواكب الجرائم ويتحرك ويضغط على الحكومات والأنظمة التي تتغنى بالديموقراطية وحقوق الانسان للقيام بما هو واجب عليها.
كل ما هناك مصالح تجارية تبرر سياسات الدول وتساهم في قضم الديموقراطية أينما كان وكيفما تمكن الزعماء الحاليون لهذا العالم المتوحش. والامر ممكن. فالاعلام الذي كان يسقط أنظمة، اغرى هذه الأنظمة لتشتريه وتوظفه فيتواطأ لأجلها.
وعلى المنظمات الدولية الممولة من هذا العالم المتوحش ان تبحث عن وظيفة جديدة لها، لأن تمويلها لم يعد يفيد المصدر.