سيُذكر أمس على أنه يوم مجيد من أيام المواجهة مع النظام الإيراني. عودة العقوبات الأميركية هي آخر ما كانت تريد طهران أن تواجهه في اللحظة التي تعيش فيها أكبر توسع «ثوري» على مستوى المنطقة، وأكثر وضع داخلي ضِيقاً واختناقاً منذ عام 1979.
مشكلة إيران مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب هي وضوح الرجل. قال في حملته الانتخابية الرئاسية إن الاتفاق النووي هو أسوأ اتفاق عرفة التاريخ، وإنه سيلغيه لو جلس في البيت الأبيض، وهكذا فعل.
ترمب صادق أيضاً حين يقول إنه يريد علاقات طيبة مع إيران، مطالباً إياها بأمر في غاية البساطة: أن تتوقف إيران عن أن تكون إيران. لا يجيد ترمب وضع معادلات كيسنجرية كعبارة «ضرورة انتقال إيران من كونها ثورة إلى كونها دولة»، وليس في جعبة مستشاريه المخيّلة الأدبية والقصصية لمستشار الرئيس السابق باراك أوباما، بين رودز، ليكتب عن قبضة طهران المشدودة وكفّ أوباما المفتوحة لتحية الإيرانيين...
ترمب يأتي من لغة مختلفة. من لغة تبادلية بسيطة. تعطيني أُعطِيكَ. وحين لا ينجح الأمر على هذا النحو يقول كما قال للرئيس الكوري الشمالي: «زرِّي النووي أكبر من زرِّك».
فعلاً يتمنى ترمب أن يرى إيران وقد كفّت عن كونها إيران التي نعرفها الآن. يرى فيها سوقاً كبيرة تحتاج إلى كل شيء من الجوارب القطنية إلى مصافي النفط وما بينهما. ويرى فيها طاقة سياحية كامنة في غاية الأهمية. ويرى فيها عامل استقرار في آسيا، وبوابة لحل المشكلات المستعصية في هذا الجزء من العالم؛ من أمن إسرائيل، إلى حل أزمة السلام المستعصية، إلى التخفيف من مناخات التطرف والإرهاب، وصولاً إلى إطفاء الكثير من الحروب التي باتت بمهجّريها ونازحيها تهدد أمن أوروبا الموحدة، وهو أهم إنجاز أمني أميركي عابر للأطلسي بعد الحرب العالمية الثانية.
ترمب ليس رجلاً عقائدياً، وما يريده فعلاً هو الوصول إلى اتفاق جديد يفتح الباب أمام إيران جديدة. ليس بين أهدافه تغيير النظام، وإن كان بعض رواسب هذه الفكرة تتسلل إلى إدارته من بقايا «الجورجبوشية» عبر مستشار الأمن القومي جون بولتون. وليس بين أهدافه تقديم أوراق اعتماد لأحد باسم أميركا لتغيير صورتها كما كان هاجس أوباما، الذي اعتقد بلا مبالاة منقطعة النظير أن العالم سيتغير فقط إذا وجد الكلام المناسب لمخاطبته.
أزمة إيران هي في هذه البساطة التي يواجهها بها ترمب. لا يملك خطاباً عقائدياً تواجهه بخطاب عقائدي. ولا يبدو أنه يطلب من النظام أكثر ما يطلبه منه الإيرانيون أنفسهم.
من سوء حظ النظام أن العقوبات النفطية، والنفط هو شريان حياة النظام الإيراني الذي يغذّي 80% من عائدات الخزينة، تحصل في وقت يتميز بأمرين: أولاً تباطؤ اقتصادي عالمي، وقوس أزمات نقدية من الأرجنتين إلى تركيا وما بينهما، ما يعني انخفاض الطلب على النفط. ثانياً توقعات بفائض نفطي في المعروض في النصف الأول من 2019، مصدره إما رفع الإنتاج السعودي والروسي لحماية الأسعار من ارتفاعات مؤذية، وإما بسبب دخول منتجين جدد أو براميل جديدة من منتجين غير تقليديين ككندا وأميركا. البيئة الحاضنة بهذا المعنى للعقوبات الأميركية هي بيئة ضامنة لتجفيف مداخيل إيران النفطية وحماية الأسعار الحالية للنفط، ومنعها من الصعود الجنوني بما يهدد بكوارث اقتصادية عالمية. يضاف إلى ذلك الإعفاءات المؤقتة التي منحتها إدارة ترمب لثماني دول للاستمرار في شراء النفط الإيراني، علماً بأن المداخيل لا تذهب إلى إيران بل توضع في حسابات خاصة داخل الدولة المشترية وبالعملة المحلية ولا تُستخدم إلا لتسديد فواتير إيرانية ثمن أغذية وأدوية ومواد غير خاضعة للعقوبات.
ما خيارات إيران؟
ثمة سيناريو كارثيّ يفيد بأن طهران قد تلجأ إلى التصعيد في باب المندب ومضيق هرمز لخلق بيئة متوترة عسكرياً تهدد تجارة النفط وترفع أسعاره، أملاً في أن تقلب العالم ضد أميركا. 12% من مجمل التجارة الدولية تمر عبر باب المندب، وفي عام 2016 كان المضيق ممراً لنحو 4.8 مليون برميل نفط يومياً منها 2.8 تتجه نحو أوروبا. في حين مر عام 2016، 18.5 مليون برميل عبر مضيق هرمز، الذي يستحوذ على أكثر من 30% من عموم تجارة النفط الخام والغاز السائل المنقول عبر البحار. لكنّ مغامرة باب المندب ومضيق هرمز أو التعرض لأنابيب النقل السعودية والإماراتية في تلك البقعة، وضرب الأسس التي تقوم عليها خطة ترمب، ستَدفع أوروبا إلى حضن أميركا وليس العكس، وستثبت للعالم أن إيران فعلاً هي الدولة غير العاقلة التي حذّر منها ترمب. وقد تعرّض طهران نفسها لأن تشن عليها إدارة ترمب ضربة عسكرية مباشرة.
الخيار الثاني وهو الأرجح، أن تبتلع إيران الإهانة المتأتية من العقوبات وأن تعضّ على أوجاعها الاقتصادية للسنتين المقبلتين على أمل أن تنتهي ولاية ترمب ولا يحظى بولاية ثانية، وتنتقل إذّاك لمفاوضة الإدارة الأميركية الجديدة بعد نهاية 2020. تعتقد إيران أنها تمتلك الوقت، لكنّ الواقع على الأرض يقول عكس ذلك.