الرئيسُ المكلَّفُ سعد الحريري يؤكّدُ أنَّ صلاحيّاتِ تأليفِ الحكومةِ تعود إليه. ورئيسُ الجمهوريّةِ ميشال عون يَجزِمُ أنَّ توقيعَه هو الحاسمُ لإنهاءِ التشكيل. إذا كان الأمرُ كذلِك، فما عليهِما سوى اللقاءِ وإعلانِ الحكومةِ ما داما متَّفقَين، مبدئيًّا، على عدمِ الاعتراف بكيانٍ مستقِلٍّ للنوّابِ السُنّةِ في 8 آذار، الّذين كانوا الذريعةَ المعلَنةَ لتأخيرِ إعلانِ التشكيلةِ الجاهزةِ الأسبوعَ الماضي.
إذا فَعلا، يؤكّدان صِدقيّةَ موقِفهما المشترَك، ويُثـبِّـتان هذا المفهومَ الثنائيَّ المتكامِلَ لصلاحيّاتِ التأليفِ، وإنْ فَتحا أزمةً حكوميّةً من نوعٍ آخَر. وإذا أحْجَما يَطعَنان بصلاحيّاتِهما ويُحلِّلان إعادةَ تفسيرِ «اتفاقِ الطائف»، بل تعديلَه.
بتعبيرٍ آخَر، يَنقلُ رئيسا الجُمهوريّةِ والرئيسُ المكلَّفُ صلاحيّةَ تأليفِ الحكوماتِ من إطارِها الدُستوريِّ المحصورِ بهما، إلى آليّةٍ غيرِ دُستوريّةٍ تتقاسمُها الأحزابُ والكُتلُ والطوائفُ القويّة. وفي لبنان، السوابقُ تصبحُ أعرافًا، والأعرافُ تُضحي دساتيرَ.
لئلّا يكونَ تلاقي الرئيسَين عون والحريري مجرّدَ تبادلِ عواطفَ في الذِكرى الثانيةِ لبدءِ العهد، يَجدُر بهما أنْ يُترجِما اتّفاقَهما، لاسيّما أنّهما معًا يَضمَنان أكثريّةً نيابيّةً تؤمِّنُ للحكومةِ الثقةَ، حتى لو حجبَها عنها المتَشبِّثون بتمثيلِ نوابِ سُنّةِ 8 آذار. كانت خِشيةُ الرئيسِ الحريري ــ في حالِ قرّرَ المواجهةَ ــ أنْ يؤلّفَ حكومةً لا يُوقّعُها رئيسُ الجمهوريّةِ، وإذا وقَّعها لا تنالُ ثقةَ المجلسِ النيابيّ.
اليوم، صارَ ــ نظريًّا ــ بمنأى من هذين «الخطرين»، لكنَّه يتخوّفَ، بالمقابل، من أن تُصبِحَ حكومتُه عُرضةً للطعنِ بميثاقيّتِها إذا استقال منها الوزراءُ الشيعة، ما يُشرِّعُ الساحاتِ أمامَ احتمالاتٍ سلبيّةٍ، أَقلُّها غيرُ ديمقراطيّ.
بَيدَ أنَّ «حزبَ الله» لا يَملِكُ سببًا ميثاقيًّا، ولا حتّى سياسيًّا، لافتعالِ أزمةٍ حكوميّةٍ، وقد اختَصر مع «حركةِ أمل» التمثيلَ الشيعيَّ، ونالا ما طالبا به من ناحيةِ عددِ الوزراءِ ونوعيّةِ الحقائب وتثبيتِ بعضِها.
أما إذا قَرّر، وحدَه أو مع آخرين، الاستقالةَ احتجاجًا على عدمِ تمثيلِ نوابٍ سُنّةٍ محدَّدين، فيُخالِف مفهومَ الميثاقيّةِ نصًّا وروحًا. إذ لن تكونَ الاستقالةُ بسبب سوءِ التمثيلِ الشيعيّ، بل بسببِ نوعيّةِ التمثيلِ السُنّي.
ليس لـ«حزبِ الله» ــ أو غيرِه ــ أنْ يَتدخّلَ في تمثيلِ الطوائفِ الأخرى، وبخاصّةٍ الطائفةُ السُنيّةُ، وقد أَجمعَت مرجعيّاتُها السياسيّةُ والدينيّةُ على دعمِ الرئيسِ المكلَّفِ في رفضِه توزيرَ سُنّةٍ من خارجِ الأكثريّةِ السُنيّةِ وامتداداتِها. نحن إذَن أمام خرقٍ دُستوريٍّ: التطاولُ على صلاحيّاتِ رئيسَي الجمهوريّةِ والحكومة، وآخَرَ ميثاقيٍّ: التدخّلُ في شؤونِ طائفةٍ وحِصَصِها وخصوصيّتِها.
لستُ معنيًّا بتوزيرِ النوّابِ السُنّةِ المعارضين تيّارَ المستقبل أو بعدمِ توزيرِهم. هذا شأنٌ آخَر يعود إلى مشاوراتِ تأليفِ الحكومة، بل إلى لَحظةِ قَبولِ الرئيسِ سعد الحريري قانونَ الانتخاباتِ النِسبيَّ الذي أَنبأ سلفًا بفوزِ شخصيّاتٍ مِن خارجِ الاصطفافاتِ الكبيرة (لا يجوزُ أنْ نَمشيَ تحت المطَر ونَشكو من البَلَل).
ما يَعنيني كمواطنٍ: محاولةُ تطويعِ الحالةِ اللبنانيّةِ والسيطرةِ التامّةِ على قراراتِ الدولةِ تحت ذرائعَ مختلِفة، آخِرُها ــ وليس أخيرَها ـــ توزيرُ سُنّةِ 8 آذار.
ما يَعنيني هو ربطُ تأليفِ حكومةِ لبنان بـ: المحكمةِ الدوليّةِ، والملفِّ النوويِّ الإيرانيِّ، والعقوباتِ الأميركيّةِ، ومقتلِ جمال خاشقجي، ومصيرِ ولايةِ العهدِ في السعوديّةِ، والتسويةِ السورية، والفدراليّةِ العراقيّة، وحلِّ الدولتين، وزيارةِ بنيامين نتنياهو سلطنةَ عُمان، والقِمّةِ الرباعيّةِ في اسطنبول، والانتخاباتِ النِصفيّةِ الأميركيّة، وصفقةِ القرن، والمؤتمرِ التأسيسيِّ في لبنان (لا ننساه). بكلامٍ صريحٍ: إنَّ محورَيْ المِنطقة يَضعان على اللبنانيّين عقوباتٍ أقسى من عقوباتِ أميركا على إيران وحزبِ الله (ويقولون: «نُحبِّكَ يا لبنان»).
كانت الناسُ تنتظرُ أنْ يَربُطَ المسؤولون تأليفَ الحكومةِ ويُسرِّعوه بالكهرباءِ الـمُقنَّنةِ، بالمياهِ المقطوعة، بالتلوّثِ القاتل، بالبَطالةِ المتفاقِمة، بالفَقرِ المتزايِد، بالهِجرةِ النازفة، بالغلاءِ المتعاظِم، بالضماناتِ الاجتماعيّةِ المتعثِّرة، بالمديونيّةِ الجارِفة، بالثروةِ النَفطيّةِ المجمَّدة، بطرقِ المواصلاتِ البائدة، بإعادةِ النازحين، بوقفِ التوطينِ والتجنيس، بازديادِ الهِجرة، إلخ... لكنّهم ــ مسؤولين وسياسيّين ــ يَعيشون في كوكبٍ آخَر، إذ لا يَنفَكّون يُشيدون بإنجازاتِهم المجازيّةِ ويَتضايقون من النقدِ والملاحظات.
منذ الثاني عشرَ من تشرينِ الأوّل الماضي، تاريخِ لقاءِ الرئيسَين عون وماكرون في قِمّةِ الفرنكوفونية في يريفان، تراجَعت عمليّةُ تأليفِ الحكومةِ فيما اعتقدَ الجميعُ أنّها تَقدّمت وستُعلَن بين يومٍ وآخر نتيجةَ ضغطٍ فرنسيٍّ. ما مضى أسبوعٌ حتى أطلَّ سماحةُ السيد حسن نصرالله مساءَ 19 تشرين الأول يقول: «أنَصَحُ بألّا يَضعَ أحدٌ مُهلًا زمنيّةً لتأليفِ الحكومةِ لأنّه أحياناً تَستجِدُّ مسائلُ أو عُقدٌ لم تَكن في الحِسبانِ في البدايةِ، أو لم تكن مأخوذةً بالجِدّيةِ المطلوبة».
من دونِ التشويشِ على العَلاقةِ الذهبيّةِ بين الرئيس عون وحزبِ الله، يَخشى الحزبُ، نتيجةَ تقاطعِ معلوماتٍ، أن يَقومَ العهدُ الحاليُّ باستدارةٍ نوعيّةٍ في سياستِه استباقًا التطوّراتِ الإقليميّةَ والدوليّةَ، شبيهةٍ بالاستدارةِ الوطنيّةِ التي أَجراها الرئيسُ السابقُ العماد ميشال سليمان حين وَضَع استراتيجيّةً دفاعيّةً، وأَصدرَ «إعلانَ بعبدا»، ودعا إلى النأيِ بالنفسِ، وتَخلّى عن ثلاثيّةَ «الشعبِ والجيشِ والمقاومة»، واقترَبَ من المحورِ السعوديِّ/الأميركيِّ بعد هبةٍ للجيشِ اللبنانيّ استُرِدَّت لاحقًا.
وتَحوّلت خَشيةُ حزبِ الله رَيبةً بعد كلامِ الرئيس عون في الذكرى الثانيةِ لانتخابِه حين حَـمّله بشكلٍ غيرِ مباشَر مسؤوليةَ تأخيرِ إعلانِ ولادةِ الحكومةِ، وحذَّره بشكلٍ مباشَر من أن «تؤدّيَ التَكتَكةُ إلى ضربِ الاستراتيجيِّ».
واستحالت الرَيبةُ موقفًا لأنَّ الجرأةَ العونيّةَ تزامنَت فيما «حزبُ الله» يواجِه وإيران التهديداتِ الإسرائيليّةَ والعقوباتِ الأميركيّةَ التي لا تُعرف بعدُ حدودُها الحقيقيّةُ وارتداداتُها سلمًا أو حربًا. وأضْحت الرَيبةُ مخاوفَ مع صدورِ مواقفَ أميركيّةٍ تدعو الجيشَ اللبنانيَّ إلى «وضعِ ضوابطَ للعَلاقةِ الملتبِسةِ مع حزبِ الله».
هل شكوكُ حزبِ الله واقعيّةٌ أم استباقيّةٌ؟ وهل موقفُ الرئيسِ عون تكتيكيٌّ أم استراتيجيٌّ؟ سنةُ 2019 لناظرهِ قريبةٌ. في كلِّ الأحوال، ما كنتُ أظنُّ أنَّ النوابَ السُنّةَ السِتّةَ جُزءٌ من لُعبةِ الأمم، لكنني واثقٌ أنَّ حزبَ الله يَصمُدُ مع حلفائِه وكذلك الرئيس عون.